بقلم: سهيل أحمد بهجت
إن ما يصفه المسيري "من خلال نقده المطوَّل للعلمانية" بالقول:
"... أما التوثن ((Fetishism)) فإنه يعني أن تصبح السلعة والشيء مركز الكون، والوثن الأعظم الذي يعبده الإنسان، والتسلع والتشيء والتوثن تعني، كلها، أن الإنسان يحيد إنسانيته المتعينة فيسقط إما في عالم الأشياء (والسلع) المادية والذات الطبيعية المادية ويفقد إنسانيته المركبة (الربانية)، أو يذوب في مطلقات لا إنسانية مجردة (المطلق العلماني: الطبيعة/ المادة التنويعات عليه: الدولة ـ السوق ـ الإنتاج ـ الاستهلاك) ويفقد أيضًا إنسانيته". (العلمانية تحت المجهر ص 93)

كل هذا لا يعدو كونه تنظيرًا فارغًا وتعاملاً تبسيطيًا مع الإنسان ككائن مركَّب؛ فدراسة الإنسان ككائن عضوي حيواني وأساليب تكاثره وأساليب عيشه، لا يعني قطعًا نزع صفات الإنسان التي يمتاز بها عن الحيوان؛ فالغرب حين اهتمامه بجانب الإنسان الغريزي، فعل ذلك مدركًا تمامًا أن المعاناة تقتل "الموهبة" و"الإبداع" ونزوع الإنسان نحو الكمال والأفضل. أما "المسيري" فيريدنا أن نهمِّش حاجات الإنسان ـ والتي سنناقش ماهيتها لاحقًا ـ وأن نتعامل معه كملاك لا يأكل ولا يشرب ولا يملك أي عاطفة، بل يكفي أن تقدّم له "الموعظة" وكفى! وهذا بالتأكيد أحد أسباب تخلف العالم الإسلامي والعربي. فهناك كمٌّ هائل من التنظير الفارغ لعملية تفكيك وتحليل الإنسان، والحديث عن "الإنسانية المركَّبة الربانية" هو تنظير من دون محتوى واقعي ملموس، والنظرية ـ أي نظرية كانت- لا تمتلك أي حظ من الصواب أو الخطأ إلا إذا أمكن تطبيقها على أرض الواقع. ونحن نشهد طوال القرون الثلاث الأخيرة توجهًا إلى الواقعية العلمية، سواء على مستوى المفكرين المؤمنين أو الملحدين، فالنزعة إلى الواقعية هي نتاج تزايد الوعي الإنساني، وتوسُّع مجالات المعرفة الإنسانية، وإدراك الإنسان لمساحة الحرية المتاحة له.

فالتوثن وعبادة المادة والمجتمع الاستهلاكي، ليست إلا نوع من التخويف والتهويل الذي يُمارس بحق الإنسان في الشرق الإسلامي؛ لإخافته من الحرية والديمقراطية والعلمانية. وكتشبيه للقاريء، فإن الشرق الإسلامي هنا هو أشبه بـ"شخص جائع على حافة الموت" وقد عثر على عنقود من العنب، ولكنه يخاف أن يأكله لأن أباه أخبره بأنه ذات مرة أصيب بحموضة بسبب العنب! إن الشرق يعاني سكرات الموت حتى فيما قبل انهيار الدولة العثمانية، ودائمًا ما يتم رفض كل منتج سياسي "غربي" من قبل منظومتنا الخلقية بحجة "الحفاظ على القيم" و"الأخلاق" ومنظومات المجتمع الهشة والبالية. وهذا يتم رغم أن حياتنا البشرية كلها أصبحت مليئة بما لا يُعدّ ولا يُحصى من المنجزات الغربية كالكهرباء، وأدوات العمل، والاتصالات، والشوارع المبلطة، والأبنية ذات النمط الحديث. فالنمطية والـ Fetishism الذي وقعنا نحن الشرقيون ضحية له، هو عبادة الممارسة الدينية ذاتها، ومنها الوسواس أو العناية المفرطة Solicitude، وبالتالي يسقط الإنسان ضحية عشق الممارسة ذاتها دون أن يكون لها أي منجز إنساني داخلي. فهناك من يعبد الصلاة، ومن يعبد الحج أو التراويح وما إلى ذلك. بالتالي نجد أن مسألة التوثن لا تنحصر في الجانب الاقتصادي والمعيشي؛ فالغالب أن الدين نفسه يصبح من عالم الإنسان بكل ما يحويه من نواقص وعيوب. فالإنسان يجد نفسه مُكرَها على دين معين من ولادته، بمعنى هو يأتي إلى الحياة من دون أن يكون له أي خيار في أن يُولد مسلمًا أو مسيحيًا أو حتى ملحدًا، فيكون مخيرًا بعدها قابلاً لاحتمالات أخرى، كأن يُغيِّر دينه أو يوغل في الدين الذي يهيمن على بيئته، إلى حد أنه يقوم بإضافة الكثير إلى الدين دون أن يشعر أن هذه الإضافة تمت بفعله الشخصي.

 "يحاول "المسيري" أن يظهر النظام الغربي القائم على الدقة والقانونية والاستمرارية وكأنه يمتلك "خاصية سلبية"، بفعل التكرار والإعادة، وتحوُّل الحياة إلى وتيرة واحدة. ويستعمل تعبير  Standardize بمعنى "توحيد المعايير والمقاييس"، يقول "المسيري":
"ويطلق الاصطلاح على ظاهرة في الحضارة الغربية، وهي أن كثيرًا من المنتجات الحضارية تصبح متشابهة ونمطية بسبب الانتاج الصناعي والسلعي الآلي الضخم (على عكس المنتجات الحضارية في المجتمع التقليدي، حيث نجد لكل شيء مصنوع شخصية مستقلة تستمدها من شخصية منتجها الذي صنعها بيديه). والتنميط في المنتجات الحضارية يؤدي إلى التنميط في أسلوب الحياة العامة والخاصة، فيقضي الإنسان حياته في سلسلة محكومة من روتين يومي منظم بمواعيد دقيقة ومتتالية معروفة مسبقًا (نوم ـ انتقال ـ عمل آلي ـ وقت فراغ)، ثم يتم تنميط حياة الإنسان نفسها.." (العلمانية تحت المجهر ص 94)

وكالعادة، يتم تبسيط النظريات والقوانين الطبيعية، وحتى تلك التي اخترعها الإنسان لحاجته إليها، ليختزلها "المسيري" كلها ويحطمها بضربة واحدة فيما أسماه بـ"التنميط"، متجاهلاً كليًا أن أحدث الصناعات، وأبرزها صناعة السيارات والإلكترونيات، تمتلك صفات شخصية تتوزَّع على نمط السيارة أو الآلة. فمثلاً تختلف سيارة المرسيدس كليًا عن سيارة فورد أو تويوتا. الأمر نفسه يتكرَّر مع أجهزة الريكوردر والراديو؛ فمن ماركة ناشنال إلى سانيو إلى سوني وبناسونيك، نجد أن لكل واحدة من هذه الماركات شيئًا تمتاز به، وليس هناك أي منطق في كلام "المسيري" حينما قال: "نجد كل شيء مصنوع- يقصد الصناعات اليدوية في الدول المتخلفةـ شخصية مستقلة تستمدها من شخصية منتجها"!! فبضاعة كهذه هي قطعًا ليست ذات قيمة؛ لأنها لن تكون متوفرة إلا لقلة قليلة، وفي المجتمعات التقليدية تكون البضاعة "العديمة النمطية ـ كما يُزعم"، والتي تُنتج ببطيء شديد، متوفرة للطبقة الغنية فقط، وغالبًا ما تُشترى بسعر تافه. فالغني يدفع فيها أزهد الأثمان- دون أن تكون للشخصية المزعومة أي قيمةـ بدافع الجشع وحاجة المنتج (البطيء) إلى المال. وهكذا فإن كل القيم الشعرية والخيالية التي يضفيها أرباب الثقافة القديمةـ و"المسيري" واحد منهم- على الانتاج والصناعة والإبداع، تصبح بلا معنى أو جدوى في أول اختبار مع الواقع.

وما يراه "المسيري" "حياة رتيبة في الغرب"، يراها الغربيون كذلك. ولكن لا يمكن قطعًا أن تكون كل الوظائف والأعمال في الغرب من هذا النمط. كما أن هذه الوتيرة العالية من الدقة، هي ضرورة تاريخية وواقعية للتحوُّل الذي شهده الغرب؛ فأمراض الطبقية والحاجة والاستغلال والاجحاف تتطلب عملاً وجهدًا حثيثًا للقضاء عليها، ولا يمكن لثقافة ومنطق "الجدل البيزنطي" التي تحرك وتقيّم الأشياء والأفكار بعيدًا عن الواقع، أن تكوّن شيئًا ذا قيمة كونها شيئًا منفصلاً عن الواقع، أو لنقل أن هذه العقلية تنتهي برفض الواقع ورؤيته كشيء "سلبي"؛ لأن هذا الواقع بكل بساطة يتناقض مع "المثال" أو الصورة الكاملة التي لا نواقص فيها، وهذه الصورة طبعًا خيال محض. فـ"المسيري" ابتداءًا من أول كلمة كتبها إلى آخر حرف سطره في حياته، لم يخبرنا "ما هو هذا الإنسان" الكامل الذي لا نقص فيه، وأين يعيش إن كان موجودًا على هذه الكرة الأرضية؟ ونحن متأكدون أنه لا وجود لهذا الإنسان؛ لأن اسم الإنسان بحد ذاته ينتهي كاشتقاق إلى "النسيان" أو "الأنس" أي حاجته إلى إنسان آخر يكمِّل وجوده.

والإنسان بحد ذاته يمتلك نمطية معينة، فلا يوجد إنسان ذو خرطوم وآخر بلا خرطوم، أو ذي أجنحة وآخر بدون أجنحة. فالإنسان قد يختلف من شخص إلى آخر في لون البشرة أو الطول وما إلى ذلك، ولكن البشر كلهم من نمط واحد يجمعهم وهو "إنسانيتهم" التي تجعلهم مختلفين عن الطيور أو الخيول. فالصفة السلبية التي يطلقها "المسيري" على "النمطية" و"التكرار" الذي يرافق حياة الإنسان، هي أمر طبيعي ملازم للوجود الإنساني. ومنذ وجود الإنسان الأول تلازمت النمطية مع هذا الوجود، فكان إنسان الكهف يخرج صباحًا أو حتى قبل شروق الشمس، ويمضي ساعات وساعات طويلة في البحث عن الطرائد والفرائس ليعود بها لاحقًا إلى أسرته أو جماعته التي تنتظره في الكهف، ويمضي باقي اليوم مع الأسرة والجماعة كتبادل الأحاديث وأخبار الصيد، أو تواجد بشري أو حيواني في الجوار. كذلك الأمر بالنسبة للمرأة التي كانت تقضي جلّ وقتها في رعاية الأطفال وصناعة الثياب والطبخ. وهذه الوتيرة نفسها تتكرَّر مع العصر الزراعي والإقطاع، وإلى عصر النهضة والصناعة. فالإنسان ككائن لا يمكن له أن يعيش في جنة لا يعمل فيها أحد، كما في الخرافة الشيوعية. وحتى في الغرب يعيش المعاقون والمسنون بدعم من دافعي الضرائب، ودافع الضريبة نفسه ينتظر من الدولة ضمانًا للصحة والسكن مقابل المبالغ الضخمة التي يدفعها. وبالتالي لا نجد بديلاً واقعيًا لكل النقد حول النمطية المحيطة بالإنسان. قد يكون من الممكن التخفيف من هذه النمطية، مثل حصول العمال والموظفين على أوقات فراغ إضافية وأجازات تتيح لهم تخفيف الشعور بالتكرار والروتين الممل. فالجنة أو الواقع المفترض للشعور المثالي بالاستقرار الإنساني الذي يريدنا "المسيري" أن نعثر عليه لا وجود له في هذا العالم.