صناعة البردي تُبعث من جديد في الشرقية
قصة قرية كانت تُعاني البطالة والآن تتعامل بالدولار!
الرسم على البردي موهبة وفن فلا تنخدع في الطباعة

تحقيق: تريزة سمير
على ورق البردي سطر المصريون القدماء تاريخ الحضارة، التي احتفظ أجدادنا بالعديد من أسرارها.. ولكن هناك سر كشفه الأحفاد؛ وهو صناعة "البردي"، ذلك السر الذي تحول إلى حرفة وصناعة.. بل اقتصاد تقوم عليه محافظة الشرقية، ومستقبل لأحفاد صناع الحضارة.
"الأقباط متحدون" تحدثت إلى الأب الروحي لفكرة بعث البردي بإعادة زراعته، والتقت أصحاب مصانع “البردي" بالشرقية، والعاملين في "بني سويف".. وكان لنا هذا التحقيق ..

ذكريات مع "البردي"كان المصري القديم يسجل يومياته على ورق البردي
دكتور "أنس مصطفى" -صاحب أول تجربة  لزراعة “البردي” بالشرقية- يحدثنا عن تجربته في قرية "القراموص": يعود اهتمامي بـ”البردي” إلى السبعينات، فكان “البردي” في دائرة اهتمامي الأولى وشغلي الشاغل، فقمت بتجميع الكثير من المعلومات والدراسات والأبحاث؛ من المراجع الأجنبية، فللأسف لم أجد مرجعًا واحدًا مصريًا، فالمصريين حاليًا ينظرون إلى الفراعنة وكأنهم كفار!، رغم أنهم أول من نادوا بالتوحيد.
ويواصل "مصطفى" ذكرياته: وبعدها بحثت كثيرًا لأجد شتلة من هذا النبات، ووجدتها بالفعل في الإدارة العامة لحدائق القاهرة، وقمت بزراعتها في حوض صغير عبارة عن بحيرة صناعية، واستمرت تجربتي الأولى حوالي ثلاث سنوات حتى رأيت أول إنتاج منها، وكنت أعمل بالطريقة الفرعونية القديمة، حيث لم تكن هناك كهرباء بالشرقية في ذلك الوقت، وفي 1980 ظهر بوضوح نجاح تجربتي ووفقني الله في زراعته، ومنذ ذلك الحين يقوم أهالي القرية بزراعته.
وبحزن يقول "مصطفى": رُغم الأهمية الكبرى للبردي، -فعندما يذكر “البردي” فى اى دولة تذكر مصر- إلا أن المصريين يتجاهلون حضارتهم العريقة، ورغم أن مصر بلد الحضارات ومنبعها، إلا أننا لا نهتم بمعرفة تاريخنا.
ويحدثنا دكتور "مصطفى" عن استخدامات البردي فلا ينصب استخدامه على عمل اللوحات فقط، ولكن يُصنع منه كروت الأفراح والمناسبات المختلفة، وتستخدمه المدارس والجامعات في شهادات التقدير، منوهًا أنه قام بعمل كروت من المعايدة لشركة بلجيكية، وتم التصدير لأنحاء أوروبا.

البردي والقراموص
 وعندما سألناه عن انعكاس “البردي” على أهالي "القراموص "أكد "مصطفى" على دور “البردي” في تطوير الشرقية بأكملها قائلاً: في بداية عملي كانت "القراموص" تعاني من البطالة بالنسبة للشباب، والتسرب من التعليم للفتيات، ولذلك أعتمد على الفتيات في زراعته وتصنيعه، إضافة إلى رفع مستوى الوعي لأهالي الشرقية، نتيجة العمل بهذا المنتج السياحي، فاهتموا بالسياحة وعلاقة السياحة بالسياسة، وبأسعار الدولار، رغم أنهم فلاحين، ولكن هذه أشياء تؤثر على عملهم فأصبحت في دائرة الاهتمام، كما أنهم اهتموا بالذوق العام، وتركيب الألوان، من حيث الانسجام، بل يعملون في تنافس، مما أعطى نجاحًا لعملهم، وبذلك كان هناك نتيجة واضحة على جوانب حياتهم،  فساعد “البردي” بالنهوض بمحتمع الشرقية؛ اقتصاديًا واجتماعيًا، فيعمل به الشباب من الجنسين، بالإضافة إلى أنه عنصر جذب للشباب من خارج الشرقية، فيأتى الشباب للعمل في “البردي”.

مصدر سعادة الشرقية
"صبحي مصليحي" -صاحب مصنع بردي بالشرقية- بدأت تجربته بزراعة 200 أو 300 متر فقط، حتى وصل الآن إلى 20 فدانًا، يؤكد على أهمية نوع الأرض في زراعة “البردي”، فالأرض الطينية وكثرة المياه من أهم عوامل زراعته حيث يأخذ فترة من 9:6 شهور، ويزداد انتاجه في الصيف مقارنة بالشتاء، ولذلك يرتفع سعره في الشتاء نظرًا لقلته.
يشعر "مصيلحي" بالسعادة عندما يخبرك أن أهالي الشرقية” يعتمدون على البردي كمصدر دخل هام؛ من الزراعة والتجهيز وإعداده في المصانع، والتي تصل إلى 150 مصنعًا، وساهم ذلك في القضاء على البطالة، بل أصبحت الشرقية جاذبة للشباب، مشيرًا إلى عمل المرأة في “البردي” في كل مراحله.

سر المهنة
لا يتوقف "اقتصاد البردي" على الزراعة والتجهيز فقط، ولكن تأتي مرحلة هامة وهي الرسم على البردي.. داخل أحد المراسم في "بني سويف" نتقابل مع الرسام "عزت إبراهيم" الذي يخبرنا أن هناك لونان للبردي؛ الأبيض والبني، وترتفع القيمة المادية للورق البني لأنه يمر بمراحل كثيرة من التخمير ليصل إلى لونه، وهناك طريقتان للرسم على “البردي”؛ الرسومات اليدوية والطباعة، والفرق بينهما كبير فى المجهود والقيمة المادية؛ فالرسم اليدوي أعلى سعرًا من الطباعة، نظرًا للوقت والمجهود وقلة الرسامين.
ومن خلال سر المهنة يكشف لنا "إبراهيم" كيف يتم التفرقة بين "البردي" المرسوم يدويًا، والمطبوع من خلال ثبات الألوان، فألوان اليدوي أكثر ثباتًا من المطبوع، وتتم طباعة الرسومات بـ"السيلك سكرين" أو طباعة "لاين"، ويتم تلوينه بالفرشاة، ولذلك يتشابه مع اليدوي، ويرى "إبراهيم" أن طباعة "الأوفست" من أردئ أنواع الطباعة.
 
خطوة بخطوة


كما نلتقي "أشرف إبراهيم" -صاحب مرسم- الذي يشرح خطوات الرسم على “البردي” والتي تبدأ برسم الشكل المراد تنفيذه على ورق "الكلك"، وبعد ذلك يتم عمل "الشبلونة" وهي عبارة عن برواز خشبي يُشد عليه نوع من الحرير الخاص بالـ"سلك سكرين"، ثم يُغطى بمادة حساسة للضوء، ويصور الشكل على فانوس خاص للإضاءة، وفي مدة محدودة، ثم تُغسل الشبلونة وتُجهز للطباعة، ويُطبع الخط الخارجي فقط، ثم نقوم بتلوينه وتحبيره، ثم صيانة الورقة وإكسابها ملمس ناعم، ولين غير قابل للكسر، وذلك في دورات ساخنة، وكبس بمكابس مخصوصة، ثم يأتي التشطيب، والتحبير، وتجهيز الورق، وتحتاج مراحل رسم الكلك، والطباعة، والمراجعة، مهارات خاصة.

السائح تعلم الفصال
عن أهم المشكلات التي تقابل المراسم يقول "إبراهيم": ارتفاع أسعار الخامات، والطباعة، والنفقات الأخرى، من مصروفات ومواصلات، في حين يقل الإقبال على شراء “البردي”، حيث يتجاهله المصريون تمامًا، لذا نرجو الاهتمام بقيمة “البردي” فى مصر؛ ليرجع مرة أخرى من أحد رموز الحضارة المصرية.
وبدهشة يضيف: حتى السائحين تغيروا! فقل الإقبال على شراء “البردي” مقارنة بالسنوات الماضية، وهذا يرجع إلى تغير نوع السائحين الوافدين إلى مصر، ففي الماضي كان السائح يتمتع بالثقافة، ولا ينظر إلى القيمة المادية لما يقوم بشراءه، أما الآن فالسائحين يأتون إلى مصر لانخفاض مستوى المعيشة، بل أصبحوا يفاصلون في الأسعار كالمصريين وأكثر!

نحتاج لحلول
ويدعمه في البحث عن حلول دكتور "أنس مصطفى" الذي يحدثنا عن أهم المشكلات التي تواجه أهالي الشرقية في صناعة “البردي” وتسويقه، فهم يحتاجون إلى منافذ بيع للمنتجات “البردية"، مؤكدًا عدم الاهتمام بهم من جانب الدولة، رغم أنه يمكن من خلالها دفع عجلة التقدم والتنمية، ليس فقط في الشرقية، بل في مصر، ومن أهم المشكلات التي تواجه العاملين انتشار الفردية في العمل، وعدم اهتمام العاميلن بالمصالح العامة، ولكن يعملون وفقًا لمصالحهم الخاصة، وهذا يعوق تقدمهم بشكل كبير.
ويضيف "مصطفى": رُغم أنني قمت بتأسيس "الجمعية التعاونية لإنتاج وتسويق البردي" في الشرقية، إلا أنه من المؤسف عدم تفعيل دور هذه الجمعية.
أهمية اقتصادية
كما أكد الخبير الاقتصادي "مختار الشريف" على القيمة الاقتصادية للبردي، فيمكن استخدامه في كثير من المنتجات، مثل اللوحات لمناظر طبيعية، أو تكتب عليه أسماء عربية حديثة أو هيروغليفية، كما يمكن استخدامه كسجادة في المنزل، ولكن الاهتمام به يحتاج إلى إرشاد ووعي سواء إعلامي أو مجتمعي.
وأشار الشريف إلى أن العاملين في صناعة “البردي” يفتقرون إلى التنظيم فيما بينهم، فهناك حاجة شديدة إلى تطويرهم من خلال وجود اتحادات وتجمعات، أو منظمة ونقابة خاصة بهم، فوجود كيان يُعبر عنهم ويجمعهم أمر ضروري جدًا لازدهار هذا المنتج القومي، الذي يمكن من خلاله القضاء ولو بشكل جزئي على البطالة، واختتم الشريف حديثه بتشجيعه الاهتمام بـ”البردي” لأنه يعبر عن الحضارة المصرية التي تمثل فخر لنا، ولكل المصريين.