المواطن المسيحي و حكاية وطن
مدحت بشاي
٤٢:
٠٨
ص +02:00 EET
الأحد ١ يناير ٢٠١٧
كتب : مدحت بشاي
Medhatbe9@gmail.com
يقول الكتاب عن مكان حياة السيد المسيح: "وَلَمَّا جَاءَ إِلَى وَطَنِهِ.." ( إنجيل متى 13: 54) ، فوطننا العزيز والعظيم مصر له حق كبير علينا .. والكنيسة القبطية العتيدة تضع اسم الوطن دوماً مع اسم الكنيسة لتعريفها ..
بينما اختار قداسة البابا شنودة الثالث مقولة المحامي الوفدي الأشهر مكرم عبيد " مصر ليست وطناً نعيش فيه ، بل هي وطن يعيش فينا " ليؤكد على مفهوم الولاء الكامل للوطن مهما كانت تحديات صناعة التقدم و معوقات إقامة مجتمع المحبة والتسامح والسلام ، أما قداسة البابا تواضروس الثاني فكان خياره لشعار " وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن " رداً على حملة جماعات التطرف الشريرة التي قامت بحرق وهدم ونهب الكنائس بشكل همجي بربري إثر عملية فض إمارة " رابعة العدوية " و قرينتها " النهضة " لتهدئة روع الأقباط وغضبهم ، والتأكيد أيضاً على أولوية الانتماء للوطن بشكل عملي من جانب " كنيسة الوطن " وكأنه أيضاً يؤكد على متغير جديد قد حدث بعد ثورة 25 يناير بخروج المواطن المسيحي إلى رحابة الوطن من الانحياز السابق إلى مفهوم " الكنيسة الوطن " إلى " كنيسة الوطن " باعتبارها مؤسسة وطنية مصرية ..
وفي المفهوم الروحي ووفق الإيمان المسيحي تؤكد لنا المراجع الإيمانية في تعريفها للكنيسة ، جاء في الكتاب المقدس ( كولوسي 1: 18) .. " وَهُوَ يسوع المسيح رَأْسُ الْجَسَدِ: الْكَنِيسَةِ ..." بالإضافة إلى أفسس 1: 22-23 التي تقول:وَالله أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ ( قدمي المسيح ) ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ (جسد المسيح )...ونحن ، جميع من أمن بالمسيحية معاً ، نُكَوِّن جسد المسيح ، فكلمة الله لا تقول أن جسد يوجد في مكان وجسد آخر يوجد في مكان غيره ، ولا تقول أن هذه الطائفة هي جسد وطائفة غيرها هي جسد آخر، بل إنها تقول "أَنْتُمْ في جَسَدُ الْمَسِيحِ" الكنيسة. أنا وأنت ننتمي إلى هذه الإشارة " أَنْتُمْ" ، وعموماً ينتمي إليها كل مؤمن مولود ثانية ، وبقدر اهتمام الله، فليس هناك تمييز بسبب الطائفة ، اللون ، الحالة الاجتماعية ، محل الإقامة أو لأي سبب آخر، فحقاً تقول لنا غلاطية 3: 26- 28" لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ: لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." نحن جميعاً ، دون أي تمييز ، أبناء الله بالإيمان بيسوع المسيح ، وجميعنا أيضاً بلا أي تفرقة ومن خلال نفس الإيمان، أعضاء جسد المسيح.وحقيقة أن الكنيسة أو الجسد هو كيان واحد وليس عدة كيانات تتضح أيضاً من خلال العديد من الفقرات في الكتاب المقدس، وحقاً نقرأ بدءاً من رومية 12: 4-5..
إنها بالفعل " الكنيسة الوطن " بالاعتقاد الروحي ، فهي للمواطن المسيحي الموطن لكل المشاهد الروحية الهامة في حياته ( فضلاً عن أنها مكان تواصله مع خالقه ) ، من مشهد الميلاد الروحي وحتى مشاهد الخطوبة والزواج ووصولاً إلى المشهد الختامي بالصلاة على جثمانه ، وعبر رحلة الحياة يتقدم فيها إلى الاعتراف بخطاياه ، والتناول ومتابعة سيامة كل الرتب الكهنوتية والأنشطة الروحية الموسمية وغيرها من الفعاليات الروحية والكنسية ..
ولكن للأسف ، وعلى مدى ما يقارب نصف قرن اختلطت المفاهيم بين تعريف الدور الوطني للكنيسة وبين أن تمارس الفعل السياسي في حالة اضطرار وضغط من جانب جهات مختلفة عليها ، أو بتطوع ساذج أو مرضي أو عدم إدراك بخطورة الألعاب السياسة وبشاعاتها من جانب بعض القيادات الكنسية ، فامتد المعنى الروحي لمفهوم " الكنيسة الوطن " إلى اعتبار الكنيسة هي وطن المسيحي في تقزيم لمساحة الوطن ، وداخل أسوارها حيث لا يعاني التمييز ولا التهجير القسري أو تعرية سيداته وسحلهن ، و الباب اللي يجيلك منه رياح التشدد والقهر الاجتماعي سده واستريح والزم " وطن الكنيسة " !!
عبر حديث مطول لجريدة الوطن قال الأنبا بولا أسقف طنطا والممثل العام لكل أقباط العالم من المصريين ماداموا أرثوذكس ، فهو ممثلهم في لجان وضع الدستور ووضع قانون بناء الكنائس والأحوال الشخصية وأى قانون يستجد مالناش في الدنيا غيره الحقيقة ، ماعلينا .. قال نيافته حزيناً على الماضي الذي كان بيد الكنيسة فيه كل أمر المواطن المسيحي " أريد أن أوضح نقطة مهمة ، وهى أنه قبل عام 1956 كانت الكنيسة هى من تصدر الأحكام عبر ما يعرف باسم المحاكم الملية، ثم انتقلت إلى المحاكم العادية ثم إلى دوائر الأسرة وأصبح للكنيسة فقط حق التصريح بالزواج الثانى من عدمه كحق مطلق ، خلافاً لما يحدث فى المنطقة العربية التى يوجد فيها مسيحيون ، فحتى الآن فى سوريا ولبنان والأردن الكنيسة هى من تزوج وتطلق، فطبعاً الكنيسة تتمنى أن يعود الأمر إلى ما كان عليه لأن الكنيسة قادرة بنظرتها على الوصول إلى الحقائق وتستطيع أن تصدر القرار المنصف وبسرعة ، وإنما الأمر يعود فى النهاية للدولة فى إمكانية هذا من عدمه "... وعليه فالكنيسة ترشحه دائماً ليمثلها ويمثل أتباعها بالمرة في كل المعتركات السياسية لعظيم دعمه في مواجهة أي انفلات من أي علماني يحلم بحق التفكير والمشاركة في وضع القوانين والأحكام التي تنظم حياته هو ، فقالها نيافته لجريدة " الوطن " في أسى وحسرة أنه يتمنى عودة الأمور إلى زمن الكنيسة المسيطرة !!!
رغم أنني أكره مُعلقات الشكوى والنحيب ، و أبغض من يرفعها في ذلة ومهانة ، أكره الوقوف على أرصفة الأنين لعرض مظلوميات الضعف والاستكانة طلباً لرفع الظلم الواقع على أفراد أو جماعات لأسباب مهنية فئوية أو التي تتعلق بطلب الحصول على حقوق حياتية للعمل والسكن والغذاء والعلاج والتعليم وغيرها ، أو حتى من يُظلمون على أساس الجنس أو الإعاقة أو الهوية الدينية أوالمكانة الاجتماعية عبر ممارسات تمييزية جائرة ..
أكره تلك البكائيات لأنها ــ وبحكم العادة ــ تظل مجرد بكائيات لا تحرك ساكناً لدى متخذ القرار على أرض المحروسة ، وحتى بعد خروج الجماهير بالملايين ليسقطوا أنظمة قامعة ديكتاتورية طلباً للحرية والكرامة الإنسانية والعيش والعدالة الاجتماعية ، فلازال أمر حقوق المُعاق والمرأة والفقير ومن لا ظهر لهم في دنيا الأكابر والطبقات العليوي والمسيحي معلقةً ، ولم تبارح مكانها للأفضل مع الأسف !!!
وهذه المقدمة ليست دعوة انهزامية تدعو لليأس والإحباط والسكون المؤلم ، ولكنها دعوة لأن تحتشد الأحزاب ، وكذلك منظمات المجتمع المدني بمافيها النقابات والمراكز الفكرية والإعلامية والثقافية في عمل دؤوب جماعي لتجاوز تلك المظالم ودمج كل هؤلاء في حالة " اندماج وطني " مستحقة..
إلا أن أمر المواطن المسيحي كان دوما مختلفاً وأكثر تعقيداً عن كل أقرانه من أصحاب معلقات المظالم المبكية ، فقد بات يعتقد أنه يواجه ما يشبه التحالف ضد الحصول على أبسط حقوقه ، فالكنيسة والبرلمان والحكومة والمحليات ونظم التعليم ونوافذ الإعلام والتشريعات وكل قوى التطرف والشارع الذي بات طائفياً في كثير من الأحوال ، جميعهم يعملون في الاتجاه المعاكس لكل مصالحه الوطنية أحياناً ، وتعويقاً لوجوده بشكل إنساني لائق في أحيان أخرى ، بل والمغيب له تماماً في مناهج التعليم وبرامج الميديا الخاصة والعامة والاختفاء القسري من على كراسي الإدارة العليا في الجامعات والمحليات والجهات السيادية الخ...
لقد كان أمر تمرير قانون بناء الكنائس عبر جولات تلبيس مشروع المواد ما يجعلها محل رضا السلفيين أمراً مخيباً للآمال ، و مع ذلك ما رضوا وما اقتنعوا أن على الأرض بشر لهم حق العبادة مثلهم ، فامتنعوا عن التصويت على القانون ، وخرج كبيرهم ورمزهم الديني " عبد المنعم الشحات " عبر شاشات الميديا ليعلن تحريمه أن يشارك المسلم في عملية بناء الكنائس في دعوة كراهية ونبذ وازدراء وتحقير للأخر ، ولم يجد أمامه المذيع أو الضيف المسيحي الذي كان ينبغي أن يكشف للمشاهد الأمر الأخطر في كلام الداعية في أن أمر تحريمه المشاركة في بناء الكنائس على هذا النحو يعني بالتالي وبالأساس أمر تحريم الموافقة على البناء من جانب المسلم صاحب القرار وهو مابرر خروج رجاله من البرلمان عند التصويت على القرار باعتبار الموافقة هو إثم مبين ، وهو الأمر الأخطر !!!
أما عن الكنيسة ، فقد لعب ممثلها السياسي الدور المعاكس والمحبط لكل أحلام المواطن المصري المستنير بشكل عام والمسيحي بشكل خاص في الفترة الأخيرة بداية من المشاركة في وضع الدستور أكثر من مرة ، فيخرج الزعيم الروحي السلفي " البرهامي " ضاحكاً مزهواً معلنا انتصاره الرائع على العلمانيين والأقباط على حد قوله ، و وصولاً إلى مشاركة ممثلها السياسي في وضع مواد قانون بناء الكنائس للأسف وتمرير قانون يعيدنا إلى ماقبل 160 سنة ياهووووووووه !!!
ولكن يبقى ماطرحه الكاتب " أرنست وليم " عبر حوار أدلى به ، قال " لابد وأن يعلم الجميع مرة وإلى الأبد أن رجال الدين المسيحي بكل طوائفهم على وجه العموم – في شرقنا – ليسوا مع الدولة العلمانية ، لأنهم يخافونها – يخافونها لأنهم يغارون على حكمهم وتصدرهم للمشهد وما أوتوا من الرفعة درجة بل قل درجات ، فدولة الملل أعطت للكنيسة سلطان على رعيتها – أكبر مظاهر هذه السلطة في قوانين الأحوال الشخصية – فإن صارت الدولة علمانية يصير المقيد في سجلات الدولة على أنه من الملة النصرانية في حل من الخضوع لقوانين الكنيسة إن أراد الاحتكام للدولة ، وهذا فوق قدرتهم على الاحتمال ففيه شبهة فقدان جزء من سلطانهم ...!! ، ويضيف " نحن نعشق الفتور عن قصد ، عن جهل، عن تكبير دماغ ولكننا في النهاية صرنا فاترين جدا.. – نريد دولة مدنية ولكن مش “أوي”.. ودينية ولكن تحترم العلم وحرية الضمير وعقائد الآخرين، هل رأيتم دولة دينية تحترم عقائد الآخرين إلا كإستراتيجية مرحلة ، وفي ضبابية واقعنا في مصر نبتدع اصطلاحات تعبر عن هذا الفتور والرقص على السلم حتى يتجرأ علينا رجل الدين الوصي لينظر لنا في السياسة.. ومتى نظر تحزلق في السياسة فقل يا داهية دقي.."..
في حديث مع قناة سي بي سي مع الصحفي محمد على خير برنامج “مساء الخير” في ديسمبر 2014م ، قال نيافة الأنبا بولا " نحن نعد قوائم للأقباط لنكون مستعدين إن طلبت منا الدولة مرشحين إحنا جاهزين – هذا هو دورنا وفقط .. ومتقلش سياسة قل دي وطنية.. تبقى سياسة لما ارشح نفسي لمجلس الشعب " ..
وعليه ، أرى المواطن المسيحي وهو يعاني من تراجع دور كل مؤسسات الدولة وفي مقدمتها الأجهزة التنفيذية الحكومية وبرلمان ما بعد الثورة ، والكنيسة والمؤسسات الدينية ، وهو يتوجه إليهم جميعاً بسؤال " ماذا بعد ؟ً "!!