الرسالة والإمارة
مقالات مختارة | عبد المنعم سعيد
الثلاثاء ١٠ يناير ٢٠١٧
إنها «الإمارة» وليست «الرسالة»، قالها ابن عديس أكثر من مرة محاولا أن يجعل القضية واضحة، لا لبس فيها ولا تأويل، بين الدين والسياسة حيث توجد الجذور الفارقة بين الإسلام على جانب، والحياة بما فيها من تفاعلات بين البشر فى جانب آخر. القضية أثارها الأستاذ إبراهيم عيسى فى روايته الأخيرة: «رحلة الدم، القتلة الأوائل»؛ والتى بدأها بفتح مصر، وحضور عبدالرحمن ابن ملجم إليها بأمر الخليفة عثمان لكى يقرأ القرآن على الجنود الفاتحين، ثم راح يتوغل فى الأحداث حتى كان اغتيال الخليفتين: عثمان وعلى، كرم الله وجهيهما، وهو ما جاء بعد اغتيال الخليفة الثانى عمر ابن الخطاب بخنجر مسموم كرم الله وجهه هو الآخر. ورغم أن الاغتيال فى عمومه يكون دائما مغريا بالاستقصاء الصحفى حتى عندما يكون مرتبطا بأحداث تاريخية باتت وقائعها جزءا من الثقافة العامة كما فعل بيل أورايلى ومارتن دوجارد مؤخرا فى سلسلة القصص عن عمليات الاغتيال والقتل لشخصيات تاريخية (لنكولن، كنيدى، المسيح، باتون، ريجان). ولكن إبراهيم عيسى فعل ذلك من قبل، وأحيانا بقدر غير قليل من الخيال اللاذع (مقتل الرجل الكبير)، وأحيانا أخرى بالتوغل فى الشخصية ويذهب معها أينما تذهب (مولانا). هذه المرة يذهب صاحبنا مذهبا آخر يقوم فيه بتشريح اللغة ما بين الخطاب الدينى والآخر السياسى؛ وهو يحضرنا طوال الوقت فى الأول للوصول إلى الإرهابى، بينما الثانى يقودنا إلى الإرهاب. وكأنما أمسك بمشرط جراح، فإنه يذهب ويتعرج بين الشخصيات، وفيها من بايع رسول الله تحت الشجرة، وبينهم المبشرون بالجنة، وكيف يتحول من لحقوا بأستار النبوة الطاهرة يلمسون نسماتها ونفحاتها؛ ولكن الدنيا وما فيها من فتح أمصار لها سابقة حضارية ناضجة، سرعان ما نضحت تقسيمات اجتماعية واقتصادية فى أرض الرسالة جعلت هؤلاء يحاكون دنيا أخرى فيها التحدى الصعب، والأسئلة الأكثر صعوبة. الصراع هنا يأتى صارخا مع الاقتراب من الخليفة الثالث عثمان بن عفان الذى لم يفعل شيئا إلا ما فعله أو سبقه إليه أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب؛ ولكن الزمن معه تغير، وإذا به يسقط فى هوة تراجيدية بالغة القسوة فى تناقضاتها حتى كان مصرعه. العجيب أن قتله كان وهو يحاول أن يجعل الإمارة عادلة، ولكنها أكثر كفاءة وفاعلية، والمد الإسلامى فى عهده يصل إلى ذرى «الصوارى» (أول معركة بحرية خاضها المسلمون)؛ أما على بن أبى طالب فقد سقط صريعا أيضا بينما يجعل الخلافة أكثر اقترابا من الرسالة.
«رحلة الدم» ربما كانت أنضج أعمال إبراهيم عيسى الروائى، وأكثرها قيمة، ولعلها ستكون الأطول عمرا؛ وفيها من الجهد اللغوى والثراء التاريخى ما يرفعه إلى الشريحة العليا من القصاصين العرب حتى يلامس القامات «المحفوظية»، خاصة فى براح واتساع الثلاثية، ولكنها هذه المرة فى عمل واحد، ربما تتلوه أعمال. كثير ممن علقوا على العمل الأدبى ذهبوا إلى أنه امتداد لروايته السابقة «مولانا»، لأن موضوع «الدين» يجمعهما بين الداعية الدينى فى الحاضر وأحداث جرت فى فجر الإسلام فى الماضى. ولكن وحدة العنوان تخون الفارق فى المعالجة الفنية، والتعامل ببراعة مع تعقيدات تاريخية مروعة فى زمن مفزع بغياب صاحب الرسالة، ومواجهة البشر لحقائقهم البشرية. فى الأول كان البطل، كما كان دائما، هو النقطة المركزية، ترتفع القصة مع ارتفاعه، وتنخفض ساعة سقوطه؛ فيه الكثير من التراجيديا وخفة الدم الكوميدية فى آن واحد. البطل هذه المرة صار عصرا بأكمله يسير فيه قارئ القرآن عبدالرحمن بن ملجم ومن لف لفه، وهم الذين لا يشرعون سيوفا، ولا يأتون أعمالا، جنبا إلى جنب مع أصحاب القيادة والعمل، القادرين على الفتح بالسيوف أو بالكلمات: عمرو بن العاص وعبدالله بن أبى سرح على ما بهما من نواقص تاريخية من تآمر ودهاء فى الأول، وبلوغ الردة فى زمن الرسول فى الثانى. الجدل بين هذا وذاك هو صناعة الأديب الذى يرى فى شخوصه ما لا نرى، وهو الذى قرر منذ البداية أن يستشف كنه كل جانب، ويرى فى تناقضهما مسيرة أطلت برؤوسها لدينا فى القرن الواحد والعشرين. وإذا كانت جائزة «البوكر» فاتت إبراهيم عيسى فى «مولانا»، فإن «رحلة الدم» هى التى ستفوت على الجائزة ما لم يحصل عليها!.
الأدب وحده هو الذى يصل بنا إلى ما وصل إليه إبراهيم عيسى فى «رحلة الدم» لكى يجعلنا نقترب من حالة تاريخية مركبة لكى نرى ما فيها من عقد باتت مستعصية علينا فى حالنا وأيامنا. التاريخ يسرد لنا كيف انقسم المسلمون حول قضية السلطة وأصلها وفصلها حتى انقسم المسلمون إلى ثلاثة فروع كبرى: الشيعة الذين لم يجدوا لها مكانا إلا بين أهل البيت النبوى الذى اصطفاه الله بالنبوة لأسباب؛ والسنة الذين ظنوها تقع بين القادرين على الحكم بالمال أو بالسيف وجعلوها فى البداية قرشية وبعد ذلك صارت لمن يريد ويستطيع ويقدر؛ والخوارج الذين وجدوها كما فعل ابن ملجم واقعة فى كلمات الله التى تحكم وتحدد الفاصل بين الإيمان والكفر. بالطبع لم يبق التقسيم التاريخى ثلاثيا، وإنما انقسم الشيعة بين طوائف لا حصر لها بعدد من وصلت لهم من أوطان وطوائف، والسنة بين مذاهب أربعة فى الأول، وما هو أكثر بكثير فى الآخر، أما الخوارج فقد بلغوا مبلغهم حتى تقاتلت «القاعدة» مع «داعش» فى الزمن القريب. وبالطبع فإن فى التاريخ تفاصيل كثيرة، ولكن الأدب هو الذى يكسيها لحما ودما، ويقرب المعاصرين من قلب الملاحم بشخصيات ومواقف تقدم الرقة والدهاء والحكمة والحماقة فى أردية إنسانية يجدها الإنسان جارية فيما حوله. وكان هذا هو ما فعله إبراهيم عيسى فى ساحة مزدحمة بالأحداث الجسام، وزمان باتت فيه دولة الإسلام إمبراطورية، وقد اختلطت فيها الرسالة بشدة مع الإمارة.
هل كانت هذه أصل الحكاية أم موطن الداء الذى نعيش فيه؟ والحقيقة أننا نعرف أين يقف إبراهيم عيسى من القضية، فهو ليبرالى يعرف أن السياسة فى النهاية ربما كانت الداء ولكنها أيضا العلاج. ولكن الروائى فيه يجعله يحاول أن يقف على مسافة واحدة من شخوصه، بل لعله يلتمس العذر للقاتل عبدالرحمن بن ملجم، وهو الذى تعلم على يد بن معاذ قراءة وحفظ القرآن، ولم يعلمه كيف يصل الدين بالحياة. وهل كانت هذه قصة الأديان كلها، أم معها كل العقائد والمعتقدات حتى نصل أيديولوجيات حديثة فيها النازية والشيوعية، حيث كلها تقدم صيغة للخلاص البشرى من أزمات وجودية؟.. رواية «رحلة الدم» لا تصل إلى هذا المبلغ، ولكن القارئ لها يعيش المعضلة والإشكالية وكأنها حاضرة معه طوال الوقت.
فى كل الأحوال فإن إبراهيم عيسى لديه كلمة يقولها فى صلب أحوال اليوم حتى ولو كان يكتب عن الماضي؛ وهذه لديها قدرة عجيبة على الوصول، فهى لا تحتاج برنامجا تليفزيونيا لكى تصل، لأنها سوف تصل على أى حال فى مقال أو رواية.
نقلا عن المصري اليوم