شبكات لصناعة الأخبار الكاذبة
د. عبد الخالق حسين
الجمعة ١٣ يناير ٢٠١٧
د.عبدالخالق حسين
التقنية المعلوماتية، نعمة ونقمة، وسلاح ذو حدين، يمكن استخدامه للخير بنشر الكتابات التنويرية ومحاربة الخرافة، وكذلك لخدمة الشر بصناعة ونشر الأخبار المفبركة بغية تضليل الرأي العام، وتسقيط الخصوم السياسيين، ونشر البلبلة الفكرية. وقد تصديتُ مع غيري، لهذه المشكلة بعدة مقالات. فنحن حقاً نعيش في عصر الخديعة، حتى صار قول الصدق عملاً ثورياً، على حد تعبير جورج أورويل. ويبدو أن صناع الأخبار الكاذبة يعتمدون على ضعف ذاكرة الناس، وبساطتهم، ولذلك يواصلون تلفيق الأخبار، وإعادة إنتاجها، والترويج لها عن طريق الإيميلات ومواقع التواصل الإجتماعي.
وصناعة الأخبار الكاذبة ليست جديدة، إذ كما علق أحد القراء على مقالي الأخير قائلاً: ((إن فبركة الاخبار ليست عملية مستحدثة والكل يتذكر كذبة الحاضنات للأطفال الخدج والتي قامت ابنة سفير الكويت بتمثيلها ضمن مسرحية تدمير العراق، والقصة الحقيرة الأخرى التي اخرجتها المخابرات التركية عن الطفلة التي تحدثت عن عملية تدمير حلب وبلغة إنكليزية ممتازة لا يستطيع التحدث بها الا من سكن في بريطانيا ودرس في مدارسها لسنين طويلة امام المتخلف اردوغان وشلة الدجل المرافقة الكاذبة، وكلنا يعرف الإمكانيات المتواضعة لمستوى الطلبة السوريين في اللغة الإنكليزية. فهل سيبقى شعبنا يبتلع الأكاذيب وهل سنبقى نقبل كل ما يقال ويضخ الى عقولنا؟ بالله عليك اكتب عن الموضوع فانا اكاد اسب نفسي وأتبرأ من عروبتي واكره امتي واحتقر ذاتي التي بقيت ذاتا جريحة بسكين التخلف والغباء. اعاننا الله فقد اصبحنا مسخرة العالم والبشرية)). انتهى
طبعاً كلنا نتذكر مسرحية الحاضنات للأطفال الخدج أيام غزو صدام للكويت، والتي قامت ابنة السفير الكويتي بتمثيلها، وبثتها البي بي سي، وبعد سنوات، وبعد أن أدت الكذبة غرضها، اعترفت البي بي سي أنها كانت مفبركة. أما عن حلب، فهي الأخرى تعرضت للكذب والتلفيق وتشويه الحقائق من قبل الإعلام الغربي والعربي. فقبل أيام قام وفد برلماني فرنسي بزيارة المدينة السورية لتقصي الحقائق، والإطلاع على أحوال الناس، فصرح الوفد فيما بعد أن (المشهد في حلب مغاير لما ينقله الإعلام الغربي)(1)
والجدير بالذكر أن وباء صناعة ونشر الأخبار الكاذبة لا ينحصر على العراق وحده، بل متفشي في كل مكان في العالم، ولو بدرجات متفاوتة، ولكن أشدها في العراق، وذلك لبساطة العقلية العراقية واستعدادها لتصديق كل ما يقدم لها من أكاذيب حسب المثل الشائع(على حس الطبل...)، وتوفر الخبرة والنوايا السيئة لدا فلول البعث وأشباههم، وتفننهم ومهارتهم في هذه الصناعة. فقبل أيام سمعت من إحدى إذاعات البي بي سي خبراً أن السلطات التشيكية القت القبض على شبكة من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، يقومون بفبركة أخبار كاذبة ونشرها بين المتكلمين باللغة التشيكية وخاصة في منطقة سلوفاكيا. ومن هذه الأخبار الوهمية، خبر مفاده أن هجوماً إرهابياً حصل في براغ أودى بحياة ما بين 187 أو 273 شخص. ونشروا مع هذا الخبر المزيف صورة لإحدى تفجيرات بغداد الأخيرة، وأخرى عن مجزرة مدينة نيس الفرنسية في العام الماضي على أنها صور لتفجيرات براغ !!(2)
السؤال هنا، إذا كانت جمهورية التشيك تتعرض لمثل هذه الأخبار الزائفة وهي في حالة أمان وسلام، وليس فيها صراع طائفي ولا فلول البعث ولا عملاء السعودية وخطر داعش، فماذا عن العراق المبتلى بكل هذه المخاطر وهو يواجه أشرس وأدهى الشبكات الشريرة في فبركة الأخبار المضللة من إرث النظام البعثي، ومن الذين باعوا ضمائرهم مقابل البترودولار الخليجي لزعزعة الوضع في العراق؟
وكانت قنبلة مدوية هي مسرحية اختطاف الصحفية أفراح شوقي، التي كُتِبت فصولها وتم إخراجها بمهارة عالية حيث نشرت عنها كافة وسائل الإعلام العراقية والعربية والعالمية، وخرجت مظاهرات دفاعاً عنها شاركت فيها جموع من كل حدب وصوب، تذكرنا بحكاية الإمبراطور وثيابه الجديدة. راجع مقالنا الموسوم: (اختطاف أفراح شوقي نسخة من اغتصاب صابرين!)(3)
فمنذ سقوط النظام البعثي عام 2003، والعراق يواجه حملة إعلامية واسعة للتسقيط والتشهير والتحريض، وتأجيج الصراع الطائفي والعنصري والقبلي...الخ، من قبل وسائل إعلام محلية ودول إقليمية. وتتخذ هذه الحملات أشكالاً مختلفة، فمن أناس يكتبون مقالات أو تقارير خبرية تحت أسماء مستعارة، أو مواقع لأيتام البعث بأسماء (ذي قار، والبصرة، وشط العرب...الخ)، ويفترون بما يشاؤون. وهناك جهات تتظاهر بالوطنية والحرص على الديمقراطية، متعكزين على انتماءاتهم اليسارية السابقة التي خانوها، مثل صحيفة المدى لصاحبها الشيوعي السابق فخري كريم، وجوقته من أمثال عدنان حسين، وعلي حسين وغيرهم، الذين جعلوا مهمتهم الرئيسية فبركة الأخبار المضللة والتعليق عليها بمقالات تحريضية ضد الوضع. ومن هذه الأخبار على سبيل المثال، اخترعت صحيفة (المدى) قبل سنوات موضوعة (الإيمو) الوهمية، وادعت أنها حركة شبابية تضم مجموعة من المراهقين العاطفيين المحبين للحياة، ولكنهم يتعرضون للقتل والإبادة من قبل المليشيات، وبدون أية حماية لهم من الحكومة. وأشغلت الصحيفة الرأي العام العراقي بهذه الفبركة لشهور إلى أن نشر مراسل البي بي سي في بغداد تكذيباً لهذا الخبر.(4)
ثم ظهر في العام الماضي، شبح، باسم (فلاح القريشي)، نشر مقابلة وهمية محبوكة بمنتهى الحرفية، مع السياسي الكردي المعروف الدكتور محمود عثمان، شن على لسانه هجوماً تسقيطياً رخيصاً على معظم السياسيين المشاركين في السلطة، وخاصة الشيعة منهم. وتبين فيما بعد أن هذه المقابلة كانت وهمية إذ نشر الدكتور عثمان بياناً نفى فيه معرفته بهذا الشخص أو لقائه به، وطالب المسؤولين العراقيين بمقاضاته.(5)
ثم ظهر هذا القره قوش القريشي، بفبركة جديدة حيث نشر تقريراً ملفقاً آخر بعنوان مطول (المحكمة العليا في لندن ترفض منح السورية "فدوى رشيد" الجنسية البريطانية لأنها لم تكشف اسم زوجها المسؤول العراقي الذي حول لحسابها 76 مليون دولار)(كذا). ومن سياقات التقرير المزيف نعرف من هو العراقي المستهدف والذي استلم منصباً كبيراً في الدولة عام 2006...الخ.(6)
أدعى البهلوان القريشي انه أخذ معلوماته هذه من الصحافة البريطانية، وهو كذب في كذب، وقد نشر تقريره على موقع مجهول، باسم (جاكوك)، لتتناوله جماعات ذات أغراض سيئة وقامت بتعميمه عن طريق الإيميلات ومواقع التواصل الاجتماعي، وتبرزه كما لو كان حقيقة. وليت الأمر توقف عند هذا الحد، إذ لاحظنا أن مثل هذه التقارير المزيفة ما أن تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي حتى وتتلقفها صحيفة (المدى) لتعاملها وكأنها صادرة من الصحافة الغربية الموثقة ولا شك فيها، فتعلق عليها بمقالات للتأكيد على صحتها ومحها زخماً إعلامياً. وعلى سبيل المثال، تناول رئيس تحرير المدى، السيد عدنان حسين موضوع (فدوى رشيد) في مقال له قبل أيام، الغرض المعلن منه محاربة الفساد، ولكن الغرض الحقيقي هو منح المصداقية للتقرير المزيف كما لو كان حقيقة غير قابلة للنقاش.
فهل المدعو فلاح القريشي هو اسم مستعار لأحد العاملين ضمن جوقة فخري كريم؟ ربما... لا أحد يستطيع أن يجيب على هذا السؤال، ولكن هل حقاً أن صحفيين محترفين ومن خلفية يسارية، كالعاملين في صحيفة المدى، لا يعرفون حقيقة نشر هكذا تقارير مزيفة والغرض منها؟ هل يصدق أن هؤلاء السادة الذين قضوا حياتهم في الصحافة والسياسة، لا يعرفون أن مراسلة صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية، أفراح شوقي، التي كانت تدبج المقالات ضد الحشد الشعبي، كانت قد رتبت مسرحية "إختطافها"، فاختبأت ولم يتم اختطافها، لينشر عدنان حسين عدة مقالات عنها، كلها تحريض وتأليب على الحكومة وعلى جهات معينة مبتلية في حربها على الإرهاب الداعشي؟ هل يعقل أن هؤلاء لا يعرفون حقيقة اختباء أفراح شوقي، وما ينشره المختفي وراء اسم فلاح القريشي وغيره من تلفيقات؟
الحقيقة وما فيها أن هؤلاء لهم أجندات خاصة تخدم نفس الدول الإقليمية التي تحارب العراق الجديد، ولكل أغراضه.
وعلى ذكر عدنان حسين، وحرصه المزعوم على مصلحة العراق، ومحاربة الفساد، كما يدعي، هو نفسه الذي كتب في صحيفة (الشرق الأوسط) السعودية عندما كان يعمل فيها، مقالاً طالب فيه السعودية والكويت وكل الدول الدائنة التي ساعدت صدام حسين في حربه العبثية على إيران، أن لا تتخلى عن ديونها على العراق، كعقاب للشعب العراقي لكي لا ينجب دكتاتوراً آخر مثل صدام حسين في المستقبل!! وكأن صدام جاء للحكم وشن حروبه العبثية بإختيار وإرادة الشعب العراقي ليستحق كل هذا العقاب. وقد نشر مقاله هذا بعنوان: (من يرفع الصوت ضد مقتدى الصدر؟)، ولكن النصف الثاني منه عن (قضية التعويضات)(7). وعدنان حسين هذا في الأيام الأخيرة، راح يتودد ويتزلف لمقتدى الصدر، وربما بأوامر من أولياء النعمة، فمقتدى هو السياسي الشيعي الوحيد الذي استقبله العاهل السعودي الملك عبدالله، لأنهم رأوا فيه حصان طروادة يحقق لهم أغراضهم في شل العملية السياسية في العراق الجديد الذي لا يريدون له الاستقرار.
خلاصة القول، لا يمكن أن يستمر هؤلاء في استغفال الشعب وخداعه إلى ما لا نهاية، إذ لا بد لهذا الشعب أن يستفيق يومياً، ويكشفهم على حقيقتهم، وعندها سيكون مصيرهم في مزبلة التاريخ وسيلعنهم اللاعنون. حقاً، نحن نعيش في عصر الخديعة، فالأخبار المفبركة خطر كبير وتجاهلها أخطر، تهدد السلم المجتمعي. لذلك على الحكومة أن تأخذ هذه المسألة بمنتهى الجدية، وذلك بمتابعة الأخبار الكاذبة المفبركة وتفنيدها أولاً بأول، وملاحقة صناعها ومروجيها، ومقاضاتهم وفق القانون. فحرية التعبير والتفكير لا تعني حرية الكذب والفبركة والافتراء والتحقير والتشهير والتضليل، خاصة ويتم كل ذلك باسم الوطنية والديمقراطية ومحاربة الفساد، وهم أساس الفساد وأعداء الديمقراطية والوطنية.
حقاً ما قاله ساميول جونسون: "الوطنية آخر ملاذ للأوغاد".