بقلم: سامي إبراهيم

لا شك أن الذي حدث في "تونس" هو حالة فريدة لم يسبق أن حدثت في تاريخ شعوب العالم الثالث. الثورة التونسية هي انعطافٌ تاريخي في مسيرة شعب حي. لكن الإعلام العربي باعتباره وسيلة يعكس بها الفرد الناطق باللغة العربية أحاسيسه وأفكاره، ذهب لتحليل الثورة في "تونس" بطريقة تخلو من المنطق والعقلانية، شأنه شأن الإنسان الناطق باللغة العربية، المفتقر للإبداع. لقد أوهم الإعلام العربي شعوبه بأن الثورة في "تونس" ستمتد لتشمل بقية الدول العربية. الإعلام العربي خدع شعوبه وأوهمها بأن الثورة في "تونس" هي ثورة عربية! وهي بداية لثورة ستشتعل لتنهي معاناة الإنسان العربي، وتخلِّصه من الفقر والذل والاستبداد والاستعباد. الإعلام العربي شأنه شأن إنسانٍ غرق في أوهامه وأحلام اليقظة، لا يكف يخدع ذاته ويتوهم أمورًا لا وجود لها على أرض الواقع. الإعلام العربي يشوِّه وجه الحقيقة ليرى الأمور كما يحب أن يراها وليس كما هي، يفسّرها على أنها ثورةٌ من شعبٍ عربيٍ! يهنئ ويبارك لنفسه ولشعبه نجاح الثورة! تستغرب من تيقنه وتأكده من أن هذه الثورة ستمتد لبقية الدول العربية! إنه كمن كذب كذبة وصدقها! 
 
ما حدث في "تونس" ليس بثورة عربية، صحيح أن الشعب في "تونس" ثار وانتفض وغيّر، لكن ما حدث في "تونس" كان انقلابًا عسكريًا وتمردًا للجيش. والأهم إن ما حدث في "تونس" سيبقى في "تونس"، هذا ما يجب أن يعيه الإنسان الناطق باللغة العربية. 
 
لا.. لن تنتقل الثورة من "تونس".. لأنه لا تأثير لـ"تونس" على أي دولة تسمي نفسها عربية. إن مجرد اشتراك الدول التي تدعو نفسها عربية بعامل اللغة، هذا لا يعني أبدًا أنها كيانٌ واحد. الدول التي تدعو نفسها عربية تختلف في أنظمة الحكم، ولكل من شعوبها شخصية مستقلة، فهي تختلف في أنظمة التفكير، وتختلف اختلافًا جذريًا في طريقة الحياة. لا يوجد تشابه لا من قريب ولا بعيد بين السوري والليبي أو التونسي والعراقي أو الصومالي والإماراتي أو اللبناني والمغربي.. إنهم أعراق مختلفة في بيئات مختلفة. واعتناقهم للدين الإسلامي لم يوحدّهم على الإطلاق، بل على العكس، زاد من درجات الاختلاف؛ لقد قسَّمهم لمذاهب وطوائف، ناهيك عن أن التعاليم الدينية تسلب قدرة الإنسان على التفكير والإبداع والتقديم، لا بل تسحقه وتطمس أي إبداع ثقافي، والتعاليم الدينية تقتل الثورة في نفس الإنسان لأنها تجعله قنوعًا خنوعًا ذليلاً متبلدًا فكريًا. وإن كان هناك فضل لشيء في الذي حدث في "تونس"، فإنه يعود لعلمانيتها وضعف تأثير التعاليم الدينية فيها. 
 
فالشعوب التي تدعو نفسها عربية شعوبٌ تحكمها الأفكار الدينية. لقد جمَّدت هذه الأفكار عقل الإنسان العربي؛ لأنها قوالب جاهزة مسبقة الصنع، تدخل عقل الإنسان لتجعله يعتنق الفكرة الثابتة المقدسة، فيعيش حالة من التركيز اللاإرادي التي تكبل منظومته الفكرية وتمنعها من الانفتاح والتطوير، والأهم تمنعه من الثورة. لقد ثبتت التعاليم الدينية نمو الإنسان العربي. 
 
ولأن "تونس" كانت دائمًا سبَّاقة ومتميزة في علمانيتها؛ فهذا ساهم بشكل كبير في انتفاضة الشعب. ضعف سطوة التعاليم الدينية في "تونس" ساهم في ثورة الشعب. وعلى العكس، فإن التأثير الكبير للتعاليم الدينية في بقية دول الجوار من شأنه أن يضعف أي عملية تغيير يمكن أن تلوح وتبدو في الأفق. التعاليم الدينية جعلت الإنسان العربي مملوكًا وتابعًا وزرعت فيه فكرة أنه عبد. لقد خسر الإنسان العربي سيادته على نفسه، وفقد قدرته على التحكم في مجريات حياته واتخاذ قراراته. 
 
الإنسان العربي هو شخصية دينية محبوسة ضمن سجن مقفل بأبواب حديدية تخشى الخروج لأنها لا تريد مواجهة الأخطار. لذلك لن تكون هناك ثورة عربية. 
 
الثورة في "تونس" أيضًا ستموت، وستفرز قادة ديكتاتوريين مستعبدين، لماذا؟ لأن القادة لا يأتون من الفضاء. القادة هم من صميم هذا الشعب، "زين العابدين بن علي" هو مجرد اسم لنظام يفرزه شعب. المجتمعات العربية بحاجة لإعادة تأهيل، بحاجة لمناهج جديدة في التربية، بحاجة لبرامج جديدة تنصّب في عقل الطفل، لتُحدث ثورة عقلية فكرية. والمجتمعات العربية في أشد الحاجة لتكوين عقول.
 
المجتمعات الغربية تمكَّنت من تشييد مصانع تنتج العقول المبدعة، بينما المجتمعات العربية تفتقر للعقول المبدعة، تفتقر للعبقرية، وهي عقول عديمة الاختراع. 
 
منذ سبعين عامًا مضت، كان يرفع الألماني يده، ويقول: "سيغ هيل"، لكن الشعب الألماني لم يعترف بجرائم النازية فقط بل استطاع أن ينتزع فكرة النازية من عقول الألمان، ويخلق عقلية جديدة، هذه العقلية ليست مفعمة بالإنسانية والحب والتواضع فحسب، بل هذه العقلية وحَّدت أوروبا الغربية والشرقية! وأخرجتها من الدمار والبؤس والموت إلى القوة والحياة والإبداع، وجعلتها متوازية مع "أمريكا" في الثروة وعدد السكان، ورفعت درجة رفاهية الفرد الأوربي إلى درجة الخيال. 
 
الإنسان في "تونس" وغيرها من الدول التي تدعو نفسها عربية، إنسان مستعبد.. عقله مستعبد وروحه مستعبدة. إن قيود عبوديته لسنوات طويلة شلت قدراته، ومنعته من أن يسير حرًا في حياته. 
 
الإنسان في "تونس" كان مسلوب الإرادة، نهض وثار وغيَّر. ولكن ستستغل فئة قليلة هذا التغيُّر لتصبح "زين عابدين" جديدة. فلا شيء تغيَّر في عقلية الإنسان في "تونس".. الإنسان في "تونس" سيبقى مسلوب الإرادة؛ لأنه عاش سنوات كثيرة مسلوب الحرية. 
 
قد يتوهم الإنسان في "تونس" أنه غدا حرًا وسيعيش في مجتمع حر يكون فيه نظام الحكم ديمقراطيًا، تضمن قوانينه حقوق الإنسان. لكنه مخطئ؛ لأن الثورة تخلق حكمًا ثوريًا.. الثورة تفرز نخبة حاكمة وأقلية مستبدة طاغية أقسى من النخبة السابقة المخلوعة التي أساءت تقدير الأمور.. الثورة ستفرز نخبة أكثر قمعًا وأشد قبضة وأذكى من سابقتها؛ لأنها لن تقع فيما وقعت به القيادة السابقة.. ستستفيد من أخطاء غيرها وستتلافاها. 
 
ستصل طبقة أو فئة معينة للسلطة في "تونس" تقيم حكمًا ديكتاتوريًا بحجة أن البلاد تمر بمرحلة انتقالية، وستدعي أنها ستضبط الوضع الأمني ريثما يتم الوصول للديمقراطية الحقيقية المُثلى. ستفرض على الشعب انتخاب نواب يمثلون سلطة تشريعية، يمثلون الشعب، ويراقبون سير أعمال السلطة التنفيذية "النخبة الحاكمة". وسيكون هؤلاء النواب تحت تصرف القيادة الحاكمة التي ستضمن لهم بالمقابل تكسّبًا ومكانةً دائمةً في البرلمان بإعادة انتخابهم، وبالتأكيد التستر على ما يقومون به. وسيتم تعيين هيكلية جديدة لجهاز المخابرات وجهاز الأمن والشرطة والقضاء بما يخدم الفئة الحاكمة.
 
يبقى التحكم في المفصل الأساسي في الحكم، والذي يتحكم في موازين القوى في حال تعرُّض الفئة الحاكمة لثورة جديدة ألا وهو "الجيش"، فطلقة واحدة من مدفع دبابة ستخمد أعظم الثورات، وعندما تسيطر على الجيش تسيطر على البلد. ولو أن الجيش استجاب لأوامر "بن علي"؛ لسحق الثورة في "تونس" وقضى عليها وأزال آثارها من الوجود.. الفئة الجديدة لن تقع بنفس الخطيئة، ستضمن ولاء الجيش فهو عماد قوتها وركيزتها.
 
تطبيق الديمقراطية في مجتمعات غير مُهيأة للديمقراطية هو حربٌ أهلية وتمزيقٌ لجسد الشعب، مثل ديمقراطية "العراق" وديمقراطية "لبنان". تطبيق الديمقراطية على شعوبٍ غير مهيأةٍ هو سلاحٌ خطير محشو ملقّم في يد طفل يلهو به ويعبث. 
 
الديمقراطية هي حكم الشعب.. الديمقراطية هي أن يكون الشعب سيدًا حقيقيًا. لكن من يتحكم في زمام الأمور، ومن يستأثر بوسائل التمثيل في "تونس" هي طبقة من الأغنياء البرجوازيين. إنها توهم الإنسان أنه حر في الانتخاب، لكن عملية الانتخاب والاختيار في الحقيقة ورغم وجود حرية ظاهرة، ما هي إلا حرية مزيَّفة وتزويرًا لإرادة الشعب وخداعًا له وانتهاكًا لسيادته، وتكسبًا من ثورته. إن هذه الطبقة التي استأثرت بوسائل التمثيل كمن تقول للإنسان في تونس: "أنت حر في الانتخاب، ولكن لقمة عيشك بين يدي!". بكل بساطة، المجتمع التونسي مواطنوه ليسوا أحرارًا، شأنهم شأن الإنسان في دول العالم الإسلامي، إنسان غير متحرِّر من الخوف والجهل والعوز والتخلف والفساد والمرض.لا يمكن أن تتوصل إلى ديمقراطية حقيقة دون استكمال شروط الحرية. الديمقراطية لا تُفرض على الشعوب، بل تنبثق من تطور وعيهم ونمو مداركهم وكثرة تجاربهم. الديمقراطية الحقيقية تنبثق من القواعد الاجتماعية، بحيث يكون الإنسان الفرد واعيًا لما له وما عليه، والأهم يكون فردًا مشبعًا بالوطنية. 
 
"تونس"- مثلها مثل بقية الأقطار التي تدعو نفسها عربية- إذا أرادت الحياة، عليها أن تفكر من جديد.. عليها أن تقوم بإصلاح الإنسان نفسه.