الأقباط متحدون - رزق عبدالمسيح... وداعاً وتحية
  • ٠٦:٠٠
  • الاربعاء , ١٨ يناير ٢٠١٧
English version

رزق عبدالمسيح... وداعاً وتحية

مقالات مختارة | سمير مرقص

٤٧: ٠١ م +02:00 EET

الاربعاء ١٨ يناير ٢٠١٧

سمير مرقص
سمير مرقص

(1) وأخذنا نتخيل الصورة كما سمعناها على أرض المعركة. كانت الدفعة التى سبقتنا، قد تعرضت لمأساة كادت أن تتحول لتراجيديا جماعية. فحين وصلوا محطة المواصلة وبدأت إجراءات إنزالهم من العربة فى حين كان هناك بعض الزملاء قد نزلوا على الرصيف ويربط الجميع سلسلة واحدة... وزادت سرعة القطار والذين فى داخل العربة يتشبثون بمواقعهم فى حين كان الزملاء الآخرون يجرجرهم القطار على الرصيف ثم على «الفلنكات»...وأخذت أتصور عبدالستار الطويلة والدكتور رزق عبدالمسيح وعزب شطا وغيرهم والقطار يسحبهم وهم يصطدمون بالزلط وخشب «الفلنكات» وبين لحظة وأخرى يتوقعون أن تشدهم عجلات القطار لتطحنهم جميعا ومعهم الزملاء الذين كانوا داخل العربة...‘‘...

(2) أورد هذه القصة الأستاذ فتحى عبدالفتاح، الصحفى وأحد المؤرخين الكبار للمسألة الفلاحية والمناضل السياسى، فى كتابه المرجعى الهام: ’’شيوعيون وناصريون‘‘؛(1975). أثرت هذه القصة كثيرا فى الشاب الذى كان يستعد للدخول إلى الجامعة. وذهب إلى والديه لمعرفة تفاصيل أكثر عن حياة ونضال الدكتور رزق عبدالمسيح «عمه»؛...الذى رحل عن دنيانا الأسبوع الماضى، ليلة عيد الميلاد 2017، عن عمر يناهز الخامسة والثمانين عاما.. لقد كانت الأسرة تتجنب الحديث تفصيلا عن هذه الفترة وما تحمله من آلام.. وكان شباب وأطفال الأسرة لا يعرفون إلا القليل عن النضال السياسى، ليس فقط للدكتور رزق عبدالمسيح بل وشقيقه التالى سامى عبدالمسيح أو الشهير فى الحركة باسم «سامى فهمى»(1934- 1998)...نموذجان وطنيان يفخر بهما كل مصرى أصيل.

(3) انخرطا فى العمل السياسى. واختارا عن وعى النضال من أجل حياة أفضل لمصر وللمصريين. ودفعا ثمن اختيارهما النضالى. واُعتقلا لمدة سبع سنوات على فترتين. سنتين من 1954 إلى 1956. وخمس سنوات من 1959 إلى 1964...فترتان اصطلح على تسميتيهما فى محيط الأسرة ببعثتى «الماجستير» و«الدكتوراه»...

وبالفعل عرف الشاب قصتهما: رزق وسامى...الشابان، ابنا الطبقة الوسطى العليا المدينية من ذوى الثقافة المدنية...نموذجان للتمرد على الأسرة والانحياز لقضايا الوطن وهمومه.. كان من المفترض أن يكملا تعليمهما فى لندن قبلة العلم فى ذاك الوقت لعائلات هذه الطبقة التى كانت تعى أهمية الاستثمار فى العلم والمهنة لا فى الأملاك مهما كثرت. فلقد ذهب الشقيقان الكبيران إلى لندن للتعلم. وكان الدور على الشقيقين التاليين ولكن الحرب العالمية الثانية حالت دون ذلك. وأضيف إليهما رزق وسامى. بيد أن سخونة الأحداث حالت دون سفر الأخوة الأربعة. وتفاعل كل منهم مع التحولات المطردة فى مصر كل واحد بطريقته. وكانت الخدمة العامة من خلال المهنة من نصيب اثنين. والسياسة من نصيب رزق وسامى...اللذين كانا يدركان أنهما يؤسسان لتقاليد جديدة بديلة للتقاليد القديمة التى كانت تسمى هذه النوعية من الأسر التى تنتمى للطبقة الوسطى العليا.

(4) لم تؤثر الظروف الصعبة التى تعرضا لها مع صفوة من خيرة شباب مصر آنذاك على حماسهما. فلم يكن لما تعرض له رزق فى واقعة القطار(1959) التى ذكرها فتحى عبدالفتاح أى أثر نفسى سلبى. فبالرغم من «الظلم» الذى «يضرب فى كل مكان الأبرياء»، بحسب بول إيلوار، كانوا «يضحكون فى الشقاء والتعذيب للغد ويتجددون به». وعليه كان الدكتور رزق حاضرا لعلاج ابن مأمور سجن أبوزعبل بكل أريحية والتزام...

(5) ويمكن القول كيف أن الدكتور رزق جعل من مهنته وسيلة لاستمرار خدمته للوطن عقب خروجه من المعتقل (بعثة الدكتوراه). فلقد أكمل دراسته للطب. وتخصص فى أمراض القلب. وعمل فى مستشفى حكومى. وخصص عيادته فى الأغلب للكشف على الفقراء دون أجر، وخاصة زملاء البعثة. وفتح منزله فى وقت من الأوقات لتكون ملتقى فنيا وثقافيا تلتقى فيه الصحبة والأهل حول محمد حمام والشيخ إمام خاصة مطلع السبعينيات...فلقد كان من عازفى البيانو الماهرين. ومن أميز الحافظين للموسيقى الكلاسيكية. وعندما اضطرته الظروف إلى أن يسافر إلى خارج مصر بعد انتفاضة 1977، عاد وتفرغ لخدمة المرضى دون مقابل لكل من «يسأله». وقدم نموذجا فى التفانى الأسرى الكامل من خلال التفرغ التام لرعاية شقيقه سامى عندما مرض مرضا امتد لسنوات أقعده تماما عن الحركة، ولأمه ولشقيقه الأصغر. ثم لزوجته على التوالى.. كذلك توفير كل ما يؤمن تربية وتعليم مناسبين لابنتيه تأكيدا لتقليد العائلة التليد فى أن التعليم والمهنية المتقنة هما وسيلتا تقدم الأوطان...

(6) خلال هذه الفترة، الثلاثين عاما الأخيرة، لم يكف عن المتابعة. وكان دوما واثقا من أن مصر سوف تعبر أزماتها.. هكذا لمس الشاب- الذى لم يعد شابا- من عمه، الذى كان دوما يناديه بالدكتور رزق، فى مقابلتهما الأخيرة منذ شهور.. ورأى فيه تجسيدا لما ردده ناظم حكمت يوما: «ومن بين القضبان.. وفى عتمة الليل وبالرغم من الجدران الثقيلة التى جثمت على صدرى.. فإن قلبى ينبض مع أبعد نجم فى السماء»...

هكذا كان رزق عبدالمسيح أحد مناضلى الظل باختياره.. رحمه الله.. نواصل...
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع