الثقافة بين العلم والعلماء
مقالات مختارة | د. أحمد شوقى
الاربعاء ٨ فبراير ٢٠١٧
منذ ثلاثين عاماً كنت فى زيارة علمية للندن، وذهبت كالعادة إلى ديللون (الذى صار اسمه ووتر ستونز، وهو من أكبر محلات بيع الكتب فى العالم)، حيث وجدت العدد التجريبى من مجلة «العلم والثقافة»، التى ما زالت تصدر إلى الآن، وأتابع ما تنشره من حين إلى آخر. هذه المجلة ذات طابع خاص يجعلنا نتمنى أن تفكر وزارة الثقافة فى إصدار مجلة مشابهة، حتى وإن لم تكن بنفس «مذاقها» الراديكالى اليسارى، وإن كان ذلك ليس عيباً فى حد ذاته، وإن كان العيب فى ارتباط مصطلح الراديكالية اليوم بالتشدد فى إحداث التغيير الجذرى فى المجتمع، بما قد يؤدى إلى التطرف والعنف، رغم أنها فى بدايتها كانت تدعو إلى الإصلاح الجذرى. عموماً نحن نحتاج إلى مجلة تربط بين ثقافتنا والعلم، وتدعو بمنهج علمى وموضوعية إلى أن يلعب العلم دوره المرتقب فى تغيير ثقافة المجتمع إلى الأفضل، منطلقاً من سياق هذا المجتمع، وليس منقلباً عليه.
وإذا كانت هذه المقدمة الطويلة تستهدف الدعوة إلى أن يكون العلم ومنهجه متضمنين فى نسيجنا الثقافى كضرورة تنويرية واضحة، بداية باقتراح متواضع بإصدار مجلة تتعامل مع العلم كثقافة، فإن الأمل فى امتداد ذلك بأشكال مناسبة فى مؤسساتنا التعليمية والعلمية والإعلامية بشكل عام. لقد أوضح العدد التجريبى المذكور لمجلة تصدر فى دولة متقدمة علمياً، أن الفصل بين الثقافة والعلم ملمح شائع، رغم أننا نعيش فى عصر العلم، الذى يتأثر بالثقافة ويؤثر فيها، إن العلم منهج، قبل أن يكون حقائق نفهم بها العالم، ونحاول تدقيقها باستمرار، وإنجازات نطوع بها هذا العالم لصالحنا، ونحاول أن يتم ذلك برشادة وحكمة.
لعل ذلك هو دور الثقافة بأجلى معانيها، عندما تتفاعل مع العلم كمكون من أهم مكوناتها غير المنفصلة عنها، التى تدرك أنه لا حل لمشكلاتها بكل أنواعها إلا بالعلم ومنهجه حتى تلك المشكلات التى تنجم عن تطبيقاته التكنولوجية وآثارها المجتمعية والبيئية، لا حل لها إلا بالعلم نفسه. هذا هو الدرس الذى يجب أن يستوعبه من يعادون أو يزيفون العلم أو يهمشون دوره، وما أكثرهم.
إن الطرح السابق ينقلنا إلى دور العلماء المهنى والثقافى / الاجتماعى، الذى تنبهنا المجلة المذكورة فى واحدة من أهم مقالاتها إلى خطورته عندما تؤخذ آراء العلماء فى غير تخصصاتهم مأخذ الجد، اعتماداً على الثقة فى «حكمتهم». والحكم القاطع الذى تذهب إليه المقالة ونوافقها عليه تماماً أن رأى العالم فى غير تخصصه لا يصح أن يكتسب ثقلاً أو حصانة مستمدين من وضعه العلمى فى مجاله.
إن العالم يتساوى فى هذه الحالة مع غيره من الأفراد المعنيين بقضايا مجتمعهم، دون أن يعنى ذلك الاستهانة برأيه أو آرائهم، التى قد تكون مفيدة، لكنها غير «خبيرة»، والفارق واضح بين الأمرين، والحقيقة أن واقعنا الثقافى يمكن أن يستفيد كثيراً من هذا الدرس فى تصحيح دور العلماء المهنى والثقافى / الاجتماعى الذى ذكرناه.
وإليكم بعض الأمثلة، دون ذكر للأسماء أو شخصنة للموضوع:
- باحثون يعلنون عن أسلوب غير مؤكد النجاح لإزالة الألغام بتكلفة قليلة، بما يضر بحقوقنا فى أن تتحمل الدول التى زرعتها كلفة الطرق الفعالة فى إزالتها حتى نتمكن من تنمية المناطق المنكوبة بها. لا شك أن النوايا حسنة، لكن الوعى بالأمن القومى يستدعى أسلوباً آخر للعمل يمكن الرجوع فيه إلى من يدركون أبعاده.
- متخصص فى مجال علمى محدد، يقوم بالإفتاء فى طيف واسع من القضايا، من المشكلات التموينية إلى سد النهضة الإثيوبى والهندسة الوراثية (عجبى)!!!
هذه الأمثلة السابقة تتعارض مع ما تتطلبه ثقافة العلم والعلماء، ودورهم المنتظر لتنمية مجتمعهم، دون أن ينفى ذلك حقهم فى إبداء آرائهم فى قضايا وطنهم كمواطنين لا كخبراء «على رؤوسهم ريشة». إن لدينا من النماذج المشرفة والمشرقة لعطاء العالم فى مجاله قدوة تحتذى، مجدى يعقوب وغنيم وعازر وغيرهم. تحية لهم، ولكل من يسير على دربهم من شيوخ وشباب العلماء، دون أن ننسى الراحلين مثل مشرفة وطلبة والقصاص ومستجير. والخلاصة، أن «مصر تستطيع» بعلمائها المدركين لدورهم وضرورتهم.
نقلا عن الوطن