الأقباط متحدون - أول السواح... لنيافة الانبا مكاريوس
  • ١١:١٥
  • الخميس , ٩ فبراير ٢٠١٧
English version

أول السواح... لنيافة الانبا مكاريوس

مقالات مختارة | الانبا مكاريوس

٢٨: ١٢ م +03:00 EEST

الخميس ٩ فبراير ٢٠١٧

 أول السواح.
أول السواح.
«فما جاوَزتُهُمْ إلّا قَليلًا حتَّى وجَدتُ مَنْ تُحِبُّهُ نَفسي، فأمسَكتُهُ ولَمْ أرخِهِ...» (نشيد 3: 4)
 
أوّل السواح...
 
عجيبٌ أن يحيا إنسان بمفرده في الصحراء عشرات السنين، مكتفٍ بوحدته مع الله، ومن هنا يُسمّى ساكن الصحراء "متوحِّدًا"، ليس لأنه يحيا بمفرده "وحده"، كلّا، ولكن لأنه انحلّ من الكلّ لينفرد مع الله، يلتصق به... يتّحد به، فإمّا أن ينشغل المرء بنفسه مع الله، عن كل شخص وكل شيء؛ أو ينشغل بنفسه مع أي شيء، عن الله. ومن هنا تُعرَّف الرهبنة بأنها "انحلال من الكل للاتحاد بالواحد"، جديرٌ بالذكر أن كلمة متوحِّد يُقصَد بها الراهب -أيّ راهب، فالكلمة "موناخوس" والتي تُطلَق على الراهب، تفيد شخصًا يحيا بمفرده (من المصدر: "مونو"). والرهبنة في أصلها وفصلها هي حياة الوحدة، ليس الجميع يرغبون في ذلك، وليس الجميع أيضًا يستطيعون ذلك، فلكلٍّ موهبته.
 
وبسبب تجنُّبه الشر والمخالفة، تأنس الوحوش إلى الراهب وتتصالح معه الطبيعة، فقد سمعنا عن متوحدين يلتقطون طعامهم من عشب الأرض، ويختزنون بعضًا من مياه الأمطار لحاجتهم من الشرب خلال العام، وآخرين اعتادت أجسادهم العارية على قيظ الحرارة وشدّة الصقيع... هكذا المتوحّد يملأ الفرح والعزاء قلبه، يكفيه القليل من الطعام والماء قوتًا لجسده النحيل، إذ يجد في المسيح كفايته وضالته المنشودة، بل وفي المسيح تجتمع كافة اشتياقاته، وفيه يجد منتهى السعادة التي بحث عنها، فيمسك به ولا يرخيه، ومن ثَمّ لا تصبح أنواع الطعام والترفيه بكافة أشكاله مصدرًا لسعادته، فهناك ما يملأ قلبه حبورًا ويغنيه عن أسباب البهجة الخارجية، لذا تطلب الكنيسة إلى الله: "املأ قلوبنا فرحًا ونعيمًا"، ويقول داود النبي، والذي صارت مزاميره مصدر عزاء وطعام للعُبّاد والنُسّاك: «يا ربُّ أعطيتَ سرورًا لقلبي أكثرَ من الذين كثُرَتْ حنطتهم وخمرهم وزيتهم» (حسب السبعينية)، وفي العبرية: «جَعَلتَ سُرورًا في قَلبي أعظَمَ مِنْ سُرورِهِمْ إذ كثُرَتْ حِنطَتُهُمْ وخمرُهُمْ. بسلامَةٍ أضطَجِعُ بل أيضًا أنامُ، لأنَّكَ أنتَ يا رَبُّ مُنفَرِدًا في طُمأنينَةٍ تُسَكِّنُني» (مزمور 4: 7، 8).
 
هكذا كانت حياة القديس الأنبا بولا...
 
وفي سيرته تظهر عدّة شخصيات، منها: بطرس شقيقه والذي يختلف معه على الميراث، ثم هناك الميت الذي كان جسده محمولاً في الطريق إلى القبر، والذي أبلغ "رسالة صارمة" للأخوين بأن ما يفعلانه هو هُراء وأن هكذا هي نهاية كل حيّ، وفي النهاية وبينما يكسب بولا الميراث «الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل...» (بطرس الأولى 1: 4) يفنى ميراث بطرس الأرضي «الّذينَ يَفتكِرونَ في الأرضيّاتِ» (فيلبي 3: 19)، ولو كان بطرس قد انفتحت عيناه على ذلك الكنز، الذي بحث عنه كثيرون ولم يجدوه، لاحتقر العالم وكل أباطيله، ولسبق بولا إلى البرّية الجوانية، وهكذا بينما تخشّع بولا إذ نُخِس في قلبه، تقسّى قلب بطرس، وبينما لم نسمع عن بطرس شيئًا بعد افتراق بولا عنه، فقد صار اسم وفعل بولا ملء الأسماع والأبصار، منذ أن نفض يده عن أموال العالم ليسجد عند قدمي المسيح بقية حياته يسكب طيبه!!، متّخذًا مكان الخاطئة التي شاع ذكرها حيثما كُرِز بالإنجيل. وهناك داكيوس الإمبراطور الذي سعى خلف بولا ليقتله، فترك أطراف المدينة ليدخل إلى البرية الجوانية بلا رجعة وليجعل منه ذلك أول السواح. وهناك الراهب القديس أنطونيوس الذي مضى اليه ووقف على سرِّه ليكتبه لنا، ولولا تلك الزيارة الخالدة لما عرفنا شيئًا عن بولا، وهناك البابا أثناسيوس الذي فاز بـ"ثوب الليف" والذي اعتبره أغلى من حرير وأُرجوان الأباطرة. وهناك العلّامة جيروم والذي كتب قصة لقاء العملاقين بولا وأنطونيوس بقلم ناسك وكاتب ماهر، وهناك الحيوانان اللذان ركعا عند قدمي الأنبا أنطونيوس وقدّما له خدمة جليلة، اذ لم يكن يعرف كيف يدفن جسد القديس، وهما أيضًا دليل على عودة الأنبا بولا لحالة القداسة التي كان عليها آدم، ومن الطيور وُجِد الغراب الذي فاز بما تمنّاه الآلاف من البشر المسيحيين، أن يروا الأنبا بولا ولو لمرّة واحدة، الغراب الذي تخلّى عن طبيعته، وكان يحضر له بنفسه طعامًا مرًة كل يوم، ثم الشخصية المجهولة التي كان الغراب يتسلّم منها يوميًا نصف رغيف الخبز، سواء أكان هو الذي يرسل الغراب به، أم كان الغراب يسرقه منه، أم يتصدّق به على الغراب، ومن ثَمّ لم يكن يعلم أن المغبوط بولا هو الذي سيتناوله (وربما كانت سيدة تخبز خبز بيتها، ومنها يحصل الغراب عليه). وأمّا صاحب السيرة العطرة نفسه فلم يُنقَل عنه سوى الكلمات القليلة التي نقلها عنه القديس أنطونيوس، وسجّلها لنا العلّامة جيروم، والتي صارت مُلهِمة وُمُعلِّمة لأجيال من الذين تأثّروا فترهّبوا حاذين حذوه. 
 
سلامٌ للقديس بولا:
 
مُحتَقِر الأباطيل..
 
عاشقِ الصحراء..
 
مُسالِم الوحوش والجوارح...
 
صديق الملائكة...
 
النموذج المسيحي...
 
والذي صار سفيرَ البشرِ في السماء، مثلما كان سفيرَ السماءِ بين البشر...
 
وطوبى لكل من حذا حذوه، وعاش حياته، وسكن إلى جواره...
 
وطوبى لرهبان ديره في الصحراء الشرقية...
 
وطوبى لكل من زار موضعه وتبارك بأثره... وتأثّر بسيرته.. وتمثّل بإيمانه
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع