الأقباط متحدون - «نجم» و«الأبنودى» و«حجاب».. سفراء الفقراء
  • ٠٤:٥٦
  • الاثنين , ١٣ فبراير ٢٠١٧
English version

«نجم» و«الأبنودى» و«حجاب».. سفراء الفقراء

مقالات مختارة | عاطف بشاى

٣٩: ٠٧ ص +02:00 EET

الاثنين ١٣ فبراير ٢٠١٧

عاطف بشاى
عاطف بشاى

خرج ثلاثتهم من ترع النيل ومصارفه وطميه، ومن رائحة الأرض وغيطان زهر القطن.. سنابل الرجاء فى وطن جديد، يسوده العدل والرحمة والمساواة، وبناء نهضة حقيقية لشعب عانى طويلاً من فساد حكم الملك وسيطرة الإقطاع والرأسمالية المستغلة الذين أجاعوه وأفقروه.. وكان ثلاثتهم فى رحلة عطائهم الطويلة والمثمرة سفراء هؤلاء الفقراء ومندوبيهم ولسان حالهم.. وغاب «الفاجومى» عنهم حيث واراه التراب فى (3 ديسمبر 2013) بعد أن صافحهم مودعاً فرداً فرداً فى الأزقة والحوارى والمقاهى وبيوت الزلزال وحوش آدم وعشوائيات «عزبة القرود» و«أرض اللواء»، وتقاسم معهم اللقمة وشاركهم العناء والغناء وشظف العيش والزنازين فوضعوه فى حدقات العيون، وأشعلوا بأشعاره الملتهبة الميادين والشوارع والجامعات، وأثاروا الرعب فى قلوب الجلادين، وهزأوا معه وبه من «النخبة» الرخوة والأفنديات ذوى الياقات المنشّاة والألسنة المتحذلقة، وسخروا معه من ازدواجيتهم، وفصامهم، ورددوا معه «يعيش المثقف على مقهى ريش.. محفلط مزفلط كتير الكلام عديم الفعل».. ولخص «نجم» قبل أن يرحل وجود الفقراء الأليم فى الزمن الضنين بكلمات بليغة موجعة تقول: «يا أهل مصر المحمية بالحرامية.. الفول كتير والطعمية.. والبر عمار».. إنه ينعى إليهم العدالة الاجتماعية الضائعة التى تصدرت شعارات ثورتين، وعاصرت نظماً متعاقبة، ولم يتحقق منها القدر الضئيل، بل صارت مثل «جودو» الذى لا يأتى أبداً.

كان «نجم» مدعواً لتسلم الجائزة الكبرى من مؤسسة «الأمير كلاوس» الثقافية، وحضور العشاء الملكى بأمستردام مع الملوك والرؤساء؛ تقديراً لتأثيره الكبير فى عدة أجيال مصرية وعربية من خلال أشعاره التى ألهمت ثلاثة أجيال حيث تميزت بحس نقدى ساخر يؤكد على معانى الحرية والعدالة الاجتماعية.

وكان مقرراً أن يسافر فجر الأربعاء (11) ديسمبر.. لكنه أحس أنه سوف يخون أصدقاء الفقر من البسطاء الذين عاش بهم ومعهم وهو يرتدى فى الحفل «الأسموكن» ويدخن البايب.. ويأكل بملعقة من ذهب.. أحس أنه سيكون غريباً فى المجتمع المخملى.. وربما نسى مثل «شابلن» فى فيلم «العصر الحديث» أن يرتدى البنطلون.. فأثار الضحكات.. رفض «نجم» أن يسافر.. مات!!

أما «الأبنودى»، الذى رسم صورة ملحمية للمواطن المصرى البسيط والمهمش، فقد استطاع أن يحقق جماهيريته العريضة من الشعر بأبياته الصادقة النابضة بالحب الفياض التى تمثل مشروعه وكل رحلته التى كرسها يخاطب الذين يشبهونه، ويشبهون لون الأرض المصرية الطيبة بكل عطائها الوفير، وبكل جدبها فى الأوقات الصعبة.. فقصيدة «الأحزان العادية» التى اكتشفها الشباب المصرى قبل الثورة بوقت ليس بالقصير، ووضع على هواتفه مقاطع منها تحكى عن البوليس وتعامله القاسى مع الثوار وأساليب القمع مع من يقع تحت أيديهم من المعتقلين أو المتظاهرين أو المعتصمين والتى كتبت منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تعكس تجربة شخصية فى إحدى زنازين القلعة فى حالة الحبس الانفرادى، تماهت مع نفس التجربة فى قصيدة «ضحكة المساجين» فها هو وسط أصدقاء القهر يردد:

«بصيت وحاسد نفسى بين خلانى/ تعالوا شوفوا الدنيا من مكانى/ حاشتنا أغراض الحياة عن النظر/ بالرغم من نبل الألم والانتظار/ اتعلمنا حاجات أقلها الحذر/ ونمنا سنوات مدهشة/ نحلب ليالى حلمنا المنتظر».

جاء «الأبنودى»، ذلك الشاب اليافع الأسمر، من طين أرض الجنوب التى يعشقها ويحن إلى العودة إليها بمجرد رحيله عنها فهو يراها جميلة رغم أن بيوتها لون التراب «الوشوش» لون التراب لكنها لا ترتدى الأقنعة ولا تتلون مثل المدينة (يا بلدنا.. أحلى ما فيكى إن توبك هو نفسه).

جاء «الأبنودى» إلى القاهرة على أثر نشر «صلاح جاهين» قصيدته العامية «الطريق والأصحاب» فى مجلة «صباح الخير».. فى زاوية بعنوان «شاعر جديد يعجبنى» التى كان يشرف عليها.. وكان «عبدالرحمن» قد أرسلها له بالبريد فى أوائل الستينات من القرن الماضى.. وفيها يقارن بين عالم القرية وعالم المدينة ويصف تلك المدينة المتوحشة: (بتاكل فى طريقها/ كل حاجة/ بياعين/ كل ناسها بياعين/ بصة الناس بتمن.. بصة الحب بتمن).

وما هى إلا سنوات قليلة حتى صار شاعراً كبيراً يملأ الدنيا أشعاراً وأغنيات عذبة وفريدة.. وحينما حلت الهزيمة أظلمت الدنيا فى وجه «صلاح جاهين» الذى تغنى ومعه «عبدالحليم حافظ» بأقلام ثورة عظيمة فى عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية وانتصارات قومية واشتراكية عميمة ورخاء شامل وفنون راقية (أوبرا وتماثيل رخام على الترعة).. ونهش الفنان الكبير ذاته بقسوة وحمل نفسه مسئولية ضياع الأرض وسرقة الوطن وخداع الجماهير؛ فتقوقع فى غياهب الاكتئاب يعانى من ألم ومرارة وضياع الأمل.. لكن «عبدالحليم» قرر أن يتجاوز الاكتئاب ويغنى لأمل بعيد المنال، عسير التحقق، وأحس أن «الأبنودى» يحمل إصرار فأس يضرب أرضاً مريضة على استرداد عافيتها وعودة اخضرارها.. قرر أن يتعانق مع ذلك الأمل المستحيل ويغنى له.. وفى تحدٍّ عظيم انطلق قلم «الأبنودى» وكتب (وعدى النهار) ورأى فيها أنه رغم أن الليالى خالية من القمر لأن العدو الكريه أراد لنا أن (نتوه فى السكة) فإن العتمة لن تنسينا الصباح: («أبوشمس» بتنشر الحنين فبلدنا للنهار.. بتحب موال النهار)..

ويأتى «سيد حجاب» ليشارك الفقراء أيضاً معاناتهم ويلتقط مفرداتهم المغموسة فى قهر الزمان ويحولها إلى صيحات اعتراض حزينة وأسى مقيم بلسان حكيم وروح ثائر وضمير حائر بين اليأس والرجاء.. بين ماضٍ تعس وغدٍ يشى بأحلام محلقة بوعود أمل ومصالحة: (من اختمار الحلم ييجى النهار.. يعود غريب الدار لأهل وسكن).. جاء يبادلهم سخرية بسخرية وهو يعلم تمام العلم أن السخرية والتنكيت والتأليس والتلسين هى أسلحة حزب الأغلبية المقهورة فى مواجهة قهر السلطة والحكام ومتنفسهم الحقيقى فى احتمال واقعهم المرير.. إنهم يسعون بالسخرية للتعبير عن الظلم الاجتماعى وعن إحباطاتهم وعذاباتهم فتنتقل سخرياتهم من مشاكلهم الاجتماعية إلى الحكام والأوضاع السياسية التى يعاصرونها: (سلو قلبى وقولوا لى جواباً/ لماذا حالنا أضحى هباباً/ لقد زاد الفساد وساد فينا/ فلم ينفع بوليس أو نيابة/ وشاع الجهل حتى أن بعضنا/ من العلماء لم يفتح كتاباً/ وكنا خير خلق الله فصرنا/ فى ديل القايمة وفى غاية الخيابة/ وصرنا نعبد الدولار حتى/ نقول له أنت ماما وأنت بابا).

غير أنه يعود ليمزج بعبقرية كلمات الأمل المحفزة بعدم الجدوى الملغزة.. الحياة بتحدياتها ومعاركها المستعرة.. بأسى حقيقة الموت والفناء رغم محاولات الفرار من عبثيتها: (لو مت على السرير/ ابقوا احرقوا الجسد/ وانطروا رمادى على البيوت/ شوية لبيوت البلد/ وشوية حطوهم فى إيد ولد/ ولد أكون بُسته/ ولا أعرفوش/ ولو أموت قتيل/ وأنا من فتحة الهويس بفوت ابقوا اعملوا من الدم حنة/وحنوا بيها كفوف عريس/ وهلال على مادنة/ ونقرشوا بدمى/ على حيطان بيت نوبى تحت النيل.. اسمى).
نقلا عن الوطن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع