
انتحار مهندس من «الطبقة المذبوحة»
مقالات مختارة | د. محمود خليل
الاثنين ٢٠ فبراير ٢٠١٧
خبر يقول: «صرحت نيابة العجوزة بدفن جثة مهندس انتحر من أعلى كوبرى أكتوبر فى النيل، بسبب أزمة مادية يعانى منها، وكثرة الديون التى لم يتمكن من سدادها». أتصور أنه لا حاجة لديك لمزيد من المعلومات عن واقعة انتحار هذا المهندس، خصوصاً إذا كنت تنتمى إلى الطبقة الوسطى التى يشعر أفرادها بأنهم يتعرضون لعملية ذبح ممنهج خلال السنوات الماضية، فكل الإجراءات الاقتصادية التى وصفتها الحكومة بالإصلاحية، صبت مصاعبها بصورة أساسية عندهم، فجوهر اتهام الحكومة لهذا الشعب بـ«الغنى والاستعباط» يتوجه إلى هذه الطبقة، بحكم طبائعها الاستهلاكية. والواقع يقول إن أغلب أفرادها لا يعتمدون على الحكومة وخدماتها بنسبة كبيرة، مثلما هو الحال بالنسبة للطبقة الفقيرة، فأغلبهم يلحقون أبناءهم بالمدارس الخاصة، ويعتمدون على الطب الخاص فى العلاج وشراء الأدوية، وفيما يتعلق بالمعطيات الأخرى للحياة، مثل المسكن والسيارة، فإنهم يعتمدون على لعبة القسط، وتنفيع تجار العقارات وأجنسات السيارات، مرتكنين فى ذلك إلى مرتباتهم المعقولة التى يحصلون عليها من العمل فى شركات خاصة، أو وجودهم فى مواقع وجهات عمل حكومية تمنح مرتبات مميزة بعض الشىء.
مع صعود موجة الغلاء، وانخفاض قيمة الجنيه، خلال الأشهر الماضية، تعرضت الطبقة الوسطى لامتحان عسير، إذ لم يعد دخلها قادراً على الوفاء بالاحتياجات الأساسية للأسرة من مأكل ومشرب وعلاج وتعليم، وأصبح «المقسّطون» منهم عاجزين تماماً عن سداد ما عليهم، فاضطر بعضهم إلى الاستدانة، أو التباطؤ فى سداد ما عليه من أقساط، وليت الأمور توقفت عند هذا الحد، بل إن العديد من أفراد هذه الطبقة استغنت عنهم الجهات التى يعملون فيها، بسبب توقف مشروعات وغلق مصانع، وارتفاع تكلفة الإنتاج، والرغبة فى تقليل المصروفات، داخل بعض المؤسسات، ليدخل من تعرضوا لذلك فى «محنة» حقيقية، ورغم تناقض فعل الانتحار مع معنى الإيمان بالله تعالى، وحقيقة أن أحوال الحياة متغيرة: «كل يوم هو فى شأن»، إلا أنك لا تملك سوى الرثاء لهذا المهندس الذى انتحر من فوق كوبرى أكتوبر، وأن تتساءل: كم من مهندس وطبيب ومدرس يمكن أن يلقى نفس المصير؟
منذ شهور طويلة كتبت سلسلة مقالات عن محنة الطبقة الوسطى، ذكرت فيها أن هذه الطبقة مثّلت العصب الرئيسى لثورتى يناير ويونيو، وأن ثمة توجساً قائماً منها، من التحرك للتغيير فى أية لحظة، وأنها لهذا السبب تتعرض لنوع من العقاب على انطلاقها فى الثورة من ناحية، ولنوع من الإجهاد الذى يعطلها عن التحرك من جديد. وحقيقة الأمر أن الأزمة التى تعيشها هذه الطبقة حالياً تؤكد -إلى حد ما- واقعية ما ذهبت إليه، فالعقاب يكاد يُحكم حلقته حول رقبتها، أما الإجهاد فواضح باد لا تخطئه عين، وقد وصل لدى نموذج المهندس الذى نتحدث عنه إلى حد اتخاذ قرار بالانتحار. ظنى أن السلطة لا بد أن تتدخل بإجراءات تؤدى إلى ترميم أوضاع هذه الطبقة، لأن من الخطورة بمكان تركها على تلك الحال، التى قد تدفع أفرادها فى لحظة لاستبدال الانتحار بالانفجار فى وجه الجميع.. الحق أقول لكم!.
نقلا عن الوطن