«داعش» يحكم بيت نجيب محفوظ.. زوجته ترفض نقل رفاته وبناته: أولاد حارتنا «حرام»
فن | الدستور
الاربعاء ١٥ مارس ٢٠١٧
من حق ابنتى أديب مصر نجيب محفوظ «فاطمة وأم كلثوم» ارتداء الحجاب، ومن حقهما كذلك أن تسافرا كل عام لأداء شعائر العمرة، ومن حقهما ثالثا ورابعًا وعاشرًا أن تلتزما دينيًا، وتريا أن الآخرة خير وأبقى.. لكن ليس من حقهما أبدًا أن تتحولا إلى خنجر فى يد الجماعات الإرهابية تطعن به أباهما ميتًا، كما طعنته حيًا!.
لا أحد يستطيع أن يزايد على محبة فاطمة وأم كلثوم للأب نجيب محفوظ، ولا أحد يملك أن ينفى عنهما مشاعرهما الإنسانية تجاه الرجل الذى يحملان اسمه، وعاشتا عمرهما فى كنفه تنهلان من فيض أبوته ورعايته، وواجبك أن تصدقهما فورًا وهما تحكيان عن الرجل «الجميل»، الذى عاش زاهدا، لا يعرف من متع الدنيا سوى الكتابة.. وسماع أغنيات أم كلثوم.. أما الذى لا يمكن السكوت عليه والتساهل معه هو أن تنضم ابنتا نجيب محفوظ إلى الخندق الآخر، الذى يطعن فى عقيدته ويرى فى روايته الأشهر أولاد حارتنا «معصية» يجب التكفير عنها والتبرؤ منها.. ووأدها إلى الأبد!.
من حقنا أن نستغرب من أن يكون رأى ابنتى نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا» لا يختلف كثيرا عن رأى الشيخ كشك، أو موقف مفتى الجماعة الإسلامية الراحل عمر عبدالرحمن، الذى كان يعتبر الرواية «تطاولا» على الله وأنبيائه الكرام من أبيهم «آدم» إلى خاتمهم «محمد»، وأنهم لو كانوا قد عاقبوا كاتبها عندما تجرأ على نشرها، ما تجرأ زميله سلمان رشدى على أن يرتكب جريمته المسماة «آيات شيطانية»، وهو الرأى الذى اعتبره شباب الجماعة الإسلامية بمثابة فتوى بإهدار دم نجيب محفوظ، فتوجهوا ليذبحوه – تقربا إلى الله - أمام منزله عصر يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994.. ونجاه الله بمعجزة من محاولة اغتياله!.
وفى أقواله أمام النيابة اعترف محمد ناجى، المتهم الأول فى الجريمة: «لم أقرأ (أولاد حارتنا).. لكن حسب ما أفتى به الشيخ عمر عبدالرحمن وغيره من الفتاوى التى قرأتها أن محفوظ تعرض فى روايته للدين الإسلامى!».
ورغم أن اثنين من كبار المفكرين المحسوبين على التيار الإسلامى «أحمد كمال أبوالمجد وسليم العوا» برآ الرواية وصاحبها من تلك الاتهامات الشنيعة المريعة، وتصدرتها مقدمة لأبى المجد يرفض فيها ما علق بالرواية من تفسيرات وتأويلات دينية ضيقة ويعلن «فإننى فهمت شخصية (عرفة) بأنها رمز للعلم المجرد وليست رمزا لشخص بعينه، كما فهمت شخصية (الجبلاوى) على أنها تعبير رمزى عن (الدين) وليست بحال من الأحوال تشخيصا رمزيا للخالق سبحانه وتعالى وهو أمر يتنزه عنه الأستاذ نجيب محفوظ».. إلا أن ابنتى نجيب محفوظ لا تعترفان بتلك البراءة وهذه الموافقة، ولاتزالان تريان «أولاد حارتنا» معصية أدبية ارتكبها الرجل الذى تحملان اسمه.. بدليل رفضهما القاطع تحويل الرواية إلى عمل فنى!.
منذ سنوات يحاول المخرج النائب خالد يوسف الحصول على موافقة ابنتى نجيب محفوظ لتحويل «أولاد حارتنا» إلى عمل سينمائى برؤيته الخاصة، وقدم كل ما يمكن تقديمه من ضمانات وإثباتات لحسن نيته تجاه الرواية ومؤلفها وأفكارها، وكان يمنى نفسه أن يكون «أولاد حارتنا» هو الفيلم الذى يليق بعودته إلى شاشة السينما بعد سنوات غيابه الطويلة منذ ثورة يناير وغرقه فى بحر السياسة.. لكن يبدو أنه فشل فى مهمته، بدليل أنه أغلق ملف الرواية وبدأ فى تجهيز عمل تاريخى عن أيام المسلمين فى الأندلس!.
والمصير نفسه يواجه السيناريست الكبير وحيد حامد، الذى كان قد عرض مليون جنيه من حر ماله لشراء حق تحويل «أولاد حارتنا» إلى مسلسل تليفزيونى، وحصل على موافقة السيدة «عطية الله» رحمها الله، زوجة نجيب محفوظ، وقت أن كانت صاحبة القرار فى سنواتها الأخيرة، وعندما آل الأمر إلى ابنتيه اختلف الأمر، وهو ما تجلى فى اتجاه وحيد حامد إلى استكمال مشروع «الجماعة» واستثمار وقته فى كتابة الجزء الثانى، بعد أن فقد الأمل أو كاد فى «أولاد حارتنا»!.
والحق أن محبى نجيب محفوظ وهم بالملايين لا يملكون إلا الدهشة والحيرة من مواقف ورثته، التى باتت إلى الفكر «السلفى» أقرب، وهو الفكر الذى عانى منه نجيب محفوظ كثيرا، وكاد يفقد حياته فى مواجهته، وقضى عمره فى مقاومته، وكان يعتبره فكرا دخيلا على المجتمع المصرى ومدمرا لعقله ووجدانه.. وهو موقف طبيعى من مبدع مصرى تربى بجوار «مولانا الحسين» وعاش الإيمان الحقيقى، وذاق وعرف واغترف، وتعلم أن الإسلام سلوك وأخلاق وحضارة، وليس جلبابا ولحية وسواكا!.
هذا ما فهمه نجيب محفوظ وكتب عنه.. ولكنه للأسف لم يصل إلى ورثته وأقرب الناس إليه، وكم هو مؤلم أن تصل الأفكار السلفية «الداعشية» إلى بيت نجيب محفوظ..لا أتحدث فقط عن موقف ابنتيه من «أولاد حارتنا» فقط ورفضهما تحويل الرواية إلى عمل فنى من منطق (دينى شرعى)، وكأنهما تثبتان «التهمة» على الرواية وكاتبها، بل هناك مواقف أخرى تدل على الاتجاه نفسه.. والفكر ذاته!.
خذ مثلا ما حدث فى مشروع إقامة متحف لنجيب محفوظ يضم كل ما يتعلق بتجربته الإبداعية والإنسانية من أول جثمانه إلى نظارته الطبية.. فعندما رحل أديب مصر فى 30 أغسطس 2006 صدر قرار من وزير الثقافة يومها فاروق حسنى بإقامة متحف باسم نجيب محفوظ، وتشكلت لجنة، برئاسة الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة، وقتها د. جابر عصفور، للإشراف على تنفيذ القرار، وجرى اختيار وكالة «محمد أبوالدهب» الأثرية القريبة من الحى، الذى نشأ فيه نجيب محفوظ وتربى وكتب، وقامت أسرته بتقديم 198 قطعة من مقتنياته على سبيل «الهبة» لوضعها فى المتحف، من بينها شهادة نوبل فى الآداب، ومكتبه الخشبى الذى كتب عليه أغلب رواياته ومبسم سجائره وماكينة حلاقته وروبه المنزلى وساعته الشخصية وعدسة قراءته المكبرة.
كما تطوع صديقه الكاتب محمد سلماوى بإهداء المتحف مجموعة نادرة من أصول رواياته وقصص لم تنشر وعصاه الشهيرة التى توكأ عليها لمدة 30 عامًا.
ومرت أكثر من عشر سنوات على صدور القرار الوزارى بإنشاء متحف نجيب محفوظ، ولكن المتحف مازال مجرد قرار على ورق لم يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.. ومن المؤكد أن هناك أسبابًا «كلاسيكية» لهذا التأخير المذهل، وسيتبادر إلى ذهنك فورًا الروتين الحكومى القاتل، والتغيرات السياسية ورياح الثورة وسنوات الفوضى فيما بعد يناير 2011، وصعود التيار الإسلامى وموقفه معروف من نجيب محفوظ، وهو ما عبر عنه القطب السلفى ياسر برهامى عندما قال بكل وضوح: إن أدب نجيب محفوظ ورواياته ساهمت فى هدم هوية الأمة، وأعمال تنطوى على طعن صريح فى الدين والعقيدة وتدعو إلى فلسفة إلحادية تعلن موت الإله ومولد الإنسان السوبر مان، وهى الأفكار التى يشجعها الغرب الملحد ويصفق لها وكانت سببًا رئيسيًا فى فوزه بجائزة نوبل!.
ولم يكتف القطب السلفى - فى أعقاب اكتساح التيار الدينى للانتخابات البرلمانية بعد ثورة يناير- بالطعن فى عقيدة نجيب محفوظ، بل لم يتورع عن طعنه فى أخلاقه، ووصف رواياته بأنها إباحية وتدعو إلى التحلل والانفلات الأخلاقى!.
ولذلك كان منطقيًا أن يتوقف مشروع إقامة متحف لأديب، هذا رأى حكام مصر الجدد فيه، حتى لو كان حاصلا على جائزة نوبل!.
لكن – فوق تلك الأسباب المتوقعة – هناك سبب آخر غير متوقع ولا يخطر على بال، فقد رفضت زوجة نجيب محفوظ طلب اللجنة الوزارية الخاصة بالمتحف بنقل رفاته إلى وكالة أبوالدهب الأثرية، لسبب دينى شرعى، فقد كان من رأيها أن نقل رفات الموتى «حرام»، وأنها حصلت على فتوى شرعية تقول إنه لا يجوز نقل جثمان نجيب محفوظ من مقبرته بالفيوم، ولم تقتنع بالأسباب «العملية» بأن يكون هناك مكان واحد لنجيب محفوظ يؤمه عشاقه، يوفر عليهم مشقة قطع عشرات الكيلو مترات لزيارة مقبرته خارج القاهرة والترحم على روحه.
كانت «فتوى» زوجة كاتبنا العظيم أحد الأسباب القوية لتأجيل مشروع متحفه طيلة هذه السنوات.. لم تتحمس للمتحف، فى حين كان حماسها بالغا لإنشاء «مسجد» يحمل اسم نجيب محفوظ فى قرية «العزيزية» قريبًا من ميدان «الرماية» على طريق مصر – إسكندرية الصحراوى، وتكلف بناؤه ما يزيد على نصف مليون جنيه، وحسبما ذكره لى د. أحمد السيد عوضين، محامى نجيب محفوظ، نصًا: «اشترت السيدة زوجته قطعة أرض فى تلك المنطقة وبنت عليها فيلا صغيرة وكانت تجهز لانتقال الأسرة (هى وكاتبنا الكبير وابنتيهما) بعيدًا عن ضجيج القاهرة وحى العجوزة المزدحم، وزار نجيب محفوظ المكان مرة واحدة ليتابع إنشاء الفيلا، واتفقت زوجته مع أهل القرية أن تتكفل ببناء مسجدها الجديد، وحضرت مرة جلسة جمعته وزوجته مع أهل القرية لأنهم تأخروا فى إتمام بناء المسجد وافتتاحه للصلاة رغم أنهم حصلوا على الدفعات التى طلبوها كاملة وكانت فى حدود نصف مليون جنيه». ومات نجيب محفوظ قبل أن يلحق بناء الفيلا الجديدة وافتتاح المسجد الذى يحمل اسمه.. ولما أصبح المسجد جاهزا للصلاة فكرت أرملة كاتبنا الكبير فى دعوة وزير الأوقاف ليفتتحه رسميا، بحضور أصدقاء محفوظ، ولكن فكرتها لم تجد حماسا لدى الأصدقاء، بل إن واحدا مثل الكاتب الأديب يوسف القعيد «أحد أبرز حرافيش نجيب محفوظ فى سنواته الأخيرة» أبدى تحفظًا على الفكرة من أساسها، وكان من رأيه أن توجه أسرة محفوظ هذا المبلغ لإقامة متحف يحمل اسمه ويخلد تاريخه ولو فى شقته الشهيرة على نيل العجوزة بعدما تنتقل الأسرة إلى فيلتها الجديدة.. وكانت وجهة نظره أن مكان المسجد سيجعل منه مجرد استراحة و«مبولة» لسائقى الميكروباص والنقل على طريق الإسكندرية الصحراوى، وتدريجيًا ستحيط به «غرز» الشاى والشيشة التى تقدم خدماتها للمسافرين، وسيتحول المنظر إلى وضع لا يليق بنجيب محفوظ ولا اسمه ولا مكانته!. لا أعرف مصدر هذا «الهاجس» الذى سيطر على أسرة كاتبنا الكبير وجعلهم على شبه قناعة أن رواياته كانت رجسًا من عمل الشيطان، وأنه عاش حياته بعيدًا عن الله، ومن ثم فإن عليهم أن «يكفّروا» عن سيئاته، فيبنون له مسجدًا كصدقة جارية على روحه، وأن يمنعوا تحويل «أولاد حارتنا» إلى عمل فنى، خشية أن تلاحقه ذنوبها فى قبره.. وهو موقف غريب ومحير، وكأن نجيب محفوظ كان من «عبدة الشيطان»!.