نظير ليس له نظير وكمان أصبح البابا شنودة!
ليديا يؤأنس
الجمعة ١٧ مارس ٢٠١٧
بقلم: ليديا يؤانس
يقولون: الذي بِلا أُم حاله يُغُم!
ولكن هذه القاعدة لا تنطبق علي "نظير جيد روفائيل"، الذي ولد في قرية سلام بمحافظة أسيوط، في الثالث من أغسطس عام 1923، ورحل عن عالمنا في السابع عشر من عام 2012، باسم البابا شنودة الثالث، بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، البابا رقم 117، عن عمر يناهز ال89 عامًا.
والذي تم نقل جثمانه الطاهر، بطائرة عسكرية، إلي دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون حيث أنه كان قد أوصى بدفنه هناك.
ومن الجدير بالذكر أنه دُفن في تابوت كان قد أهداه له بابا روما، البابا بندكت السادس عشر.
ولكن تعالوا معي، إلي كلمات البابا شنودة الثالث، وحديثه عن سيرته الذاتية، كما رواها بلسانه الطاهر، أثناء تسجيله للفيلم الوثائقي "همسة حب".
يقول البابا؛ "خُلقت يتيمًا، كُنتُ طفلًا وحيدًا ماتت أمه، دون أن يرضع منها، وعاش فترة من طفولته المُبكرة، بلا صداقة أو زمالة، ولا لعب مثل باقي الأطفال".
يا تري ما الذي يعنيه قداسة البابا باليُتم؟
هل يعنى أنه كان يتيمًا من الأب أيضًا؟
ربما، ولكنه هنا ركز علي موت أمه، عدم رضاعته منها، وطفولته المبكرة البائسة!
فعلًا؛ الذي بِلا أُم حاله يُغُم!
وكثيرين من الأطفال الذين يواجهون نفس الظروف، تنقلب حياتهم إلي الضياع، بسبب فقدانهم العنصر الأساسي في نشأتهم الأولي.
أكيد حياة "نظير" كانت صعبة جدًا في بدايتها، ولكن صعوبة الحياة وقسوتها عليه، شكلت حياته، ووضعت أساسًا صلبًا متينًا، لشخصية سوف يكون لها شأنًا عظيمًا، شخصية سوف تكون قادرة علي أن تقود الكنيسة في حقبة زمنية طويلة وصعبة، تتنازعها السياسات العاتية والتيارات المُتطرفة.
أكيد نظير لم يكن له الفضل منذ البداية، في تسيير حياته ليوجهها إلي النجاحات، التي حققها البابا شنودة علي مدي حياته فيما بعد، ولكنني أري هنا أصابع الله الخفيه، أنها هيّ التي كانت تعمل في حياة الطفل نظير لتخلق منه شخصًا ليس له نظير!
الله بعلمهِ المُسبق، كان يعلم أن هذا الطفل "نظير" سيكون البطرك رقم 117 لكنيسته في مصر، فقبل أن يهبه نسمة الحياة، كانت العناية الإلهية تُرتب لهذا الطفل حياته وتُشكل شخصيته ليستطيع قيادة الكنيسة الأرثوذكسية لمدة أربعون سنة، أربعة شهور، وثلاثة أيام.
ترجع بي الذاكرة إلي موسى النبي، حينما اضطرت أمه إلي وضعه في سفط وتركته يطفو علي سطح النهر، خوفًا من أن يقتله جنود فرعون، حيث ان فرعون كان قد أمر بقتل كل أطفال العبرانيين من سنتين وأقل.
لم يسمح الله بهلاك موسى، وهُنا بدأت إصابع الله الخفية تعمل لحماية الطفل، فأرسله إلي بيت الملك فرعون، الملك الذي أمر بذاته بقتل أطفال العبرانيين، وتربي موسى في بيت فرعون 40 سنه، ثم رأي الله أن موسى يجب أن، يعيش قسوة الحياة وليس ترفها ورفاهيتها، فأرسله إلي البرية لمدة 40 سنة أخري، ليرعي الغنم ويعيش مع أسرته، ثم طلب منه الله بعد ذلك، أن يقود شعبه، شعب بني اسرائيل، وقاد موسى شعب الله، أربعون سنة أخري ثم مات.
نعم، نظير ليس له نظير وكمان البابا شنودة الثالث، ربما لا يكون له نظير، ليس للإقلال من أباء بطاركه عظماء كل منهم كان له دورًا عظيمًا، كما رسمه له الله، ليتناسب مع الحقبة الزمنية والوضع السياسي في ذلك الحين.
لا نستطيع أن نقول أن هذا البطرك أفضل من ذاك، لأن الله هو المانح العطايا والمواهب لكل شخص ويالأخص القيادات الكنسية لكي يقودوا شعب الله كما يريد هُوّ وليس كما يُريد البطرك.
البابا شنودة الثالث إمتاز بأنه، الشخصية المُتعددة المواهب، ذات الإبداعات المُختلفة، ذات العمر المديد، ذات التاريخ البطريركي الطويل، وهذه المميزات قد تكون جعلت منه البطرك، الذي قد لا يكون له مثيل من حيث إستحواذه علي عدد ضخم من الإنجازات، التي خرجت من تحت يديه لتُحدث ثورة، تنهض بالكنيسة بعد سنين طويلة، كان دورها ربما لا يزيد عن حضور الشعب للصلوات والتسبيح!
في إعتقادي، ربما يُعتبر عصر البابا شنودة الثالث، هو العصر الذهبي للكنيسة الأرثوذكسية المصرية، من حيث الإنفتاح الكنسي والروحي والتعليمي والسياسي.
البابا شنودة الثالث، عاصر كل الرؤساء المصريين، الذين جلسوا علي كرسي المحروسة، بإستثناء الرئيس السيسي، كما عاصر الزعيم عبد الناصر قبل أن يُصبح بطركًا.
البابا شنودة الثالث، خرج بالكنيسة المصرية الأرثوذكسية، من حيز العبادة فقط، لكي تُشارك في الحياة السياسية والإجتماعية، فشجع المواطن المسيحي، ليكون له دورًا في المواطنة المصرية، بالرغم من أن الكنيسة كانت علي مدى العصور تعتبر مضطهدة!
البابا شنودة الثالث، في فترة حياته البطريركية عاصر إثنان من الرؤساء؛ هما الرئيسان "السادات" و "مبارك".
لقد جاء تزامن إعتلاء البابا شنودة لكرسي البابوية علي الترتيب، مع إعتلاء الرئيس السادات لكرسي الرئاسة في عام 1971.
البابا شنودة بحكم إنفتاحه علي كافة النواحي السياسية والإجتماعية، كانت له آراؤه، وخاصة لما يحدث للكنيسة، وأيضًا علي الصعيد السياسي حينما رفض الذهاب إلي اسرائيل مع السادات، وكانت الطامة الكبري حينما خرج الأقباط في مظاهرات في أمريكا اثناء زيارة السادات لأمريكا لإجراء مباحثات السلام، فرفعوا لافتات تصف ما يحدث للأقباط من اضطهاد في مصر.
هذا بالتأكيد أضر بصورة السادات في أمريكا، فأعتبر السادات أن البابا تقاعس عن أن يوقف هذه التظاهرات، وعلي ذلك أرسلت الأجهزة الأمنية للبابا أمرًا للتوقف عن عمل العظة الأسبوعية، فأصدر البابا بدورة، قرارًا بعدم الإحتفال بالعيد، وعدم استقبال المسئولين الرسميين، وكانت هذه المرة الأولي والأخيرة التي يُقر فيها البابا علانية بوجود إضطهاد للأقباط في مصر.
إنتهي المشهد بين البابا والسادات، بالقطيعة، وأصدر السادات في سبتمبر 1981 قراره بالتحفظ علي 1531 من الشخصيات العامة والكنسية المعارضة.
لم يعتقل السادات البابا شنودة، ولكنه حدد إقامته في دير الأنبا بيشوي، ولم يتم الإفراج عن البابا والشخصيات المُتحفظ عليهم حتي بعد مقنل السادات في أكتوبر 1981، ألي أن أفرج عنهم مبارك في سنة 1985.
علي ما أعتقد أن هذه الفترة كانت من أصعب الفترات التي مرت علي البابا والكنيسة، ولكن بالتأكيد كان لها دورًا قويًا في حياة وازدهار الكنيسة.
نعم الكنيسة في عهده ازدهرت ونَمت داخليًا وخارجيًا، وامتدت شرقًا وغربًا، وقد كان البابا كيرلس السادس من قبل البابا شنودة، قد بدأ في إنشاء كنائس وإيبارشيات في الخارج، والآن البابا شنودة يُكمل المسيرة، فزاد عدد الكنائس بالخارج بشكل ليس له نظير.
البابا شنودة كان أول بطرك يقوم بإنشاء العديد من الأديرة القبطية خارح مصر، كما أنشأ منشآت خاصة للرهبان والراهبات داخل مصر.
في عهده تمت سيامة أكثر من 100 أسقف وأسقف عام بما في ذلك أول أسقف للشباب، وأكثر من 400 كاهن، وعدد غير محدود من الشمامسة.
أطلقوا علي البابا شنودة بأنه معلم الأجيال، فهو الرجل المثقف، الواعظ الذي سجل الألاف من الوعظات في فترة خدمته، وكان شاعرًا، وكان سريع البديهه وخفيف الظل، وكان في أوقات كثيرة يُحَوّل بعض الكلمات أو المواقف إلي قفشات أو نكات لطيفة، البابا كان محبوبًا ومُحبًا للآخرين، بغض النظر عن مُعتقداتهم أو حتي اختلافهم في الرأي معه.
في الذكري الخامسة لنياحة البابا شنودة الثالث، بابا الأسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، البابا رقم 117، لا يسعنا إلا أن نرفع القُبعة لهذا العملاق في البطاركة.