البابا المدنى.. الأيام المجهولة فى حياة شنودة الثالث
أخبار مصرية | الدستور
السبت ١٨ مارس ٢٠١٧
تحلّ اليوم الذكرى الخامسة لوفاة البابا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية الراحل، الذى ارتبط بحياته ومواقفه ومقولاته وكاريزمته الكبيرة مسلمو مصر قبل مسيحييها، فحياة الرجل حافلة بالقصص الجديرة بالتسجيل والمتابعة، والتى لا تمثل مشاهد فى عمر «بطريرك» فحسب، بل تشكل لوحة من لوحات تاريخ مصر الحديث.
«الدستور» قرّرت الاحتفال والاحتفاء بذكرى البابا الراحل بطريقتها، وحصلت على مذكراته التى سجلها محبوه بصوته فى فيلم مصور يتناول سنوات عديدة من عمر طويل شهد تميز وتفرد «نظير جيد روفائيل»، وامتد من 3 أغسطس 1923 حتى 17 مارس 2012.
أولى مطبات الحياة: وفاة الأم بعد أسبوعين من الولادة
يروى البابا شنودة الثالث تفاصيل سنوات عمره الأولى، ويقول: «بداية قصتى لا أعرفها، لكنى أعرف أنها بدأت فى 3 أغسطس 1923 فى إحدى قرى أسيوط، حيث بدأت الدراسة ما قبل الابتدائى، وكانت تُسمى فى أيامنا السنة التحضيرية. يقولك فلان فى التحضيرى يعنى قبل الابتدائى، اللى هى قبل مرحلة الحضانة أو مرحلة الحضانة أو الكى جى حاليًا. لا أذكر شيئًا عن هذه الفترة إلا أنى كنت أسير إلى المدرسة فى ذلك الطريق الطويل، أمشى فيه وحدى أفكر».
يختفى صوت البابا شنودة فى الفيلم، ويتم عرض بعض اللقطات الخاصة عن قرية «سلام» بمحافظة أسيوط، التى ولد بها البابا، وتدخل الكاميرا المنزل الذى شهد ولادته، وهو منزل متواضع للغاية ظهرت عليه عوامل الزمن، بينما ترى بعض الصور الدينية المسيحية معلقة على بعض جدرانه.
يظهر بعد ذلك بعض الشخصيات من أقربائه الذين تحدثوا عن ولادته وطفولته وقيامهم بإرضاعه من جيرانهم، لوفاة والدته مبكرًا بعد ولادته بأسبوعين فقط.
ينتقل الفيلم ليظهر البابا مستكملًا كلامه قائلاً: «كنت طفلًا وحيدًا ماتت أمه دون أن يرضع منها، وعاش فترة من طفولته المبكرة بلا صداقة أو زمالة ولا لعب مثل باقى الأطفال، ولعل هذا ما ذكرته مرة فى قصيدة من الشعر قلت فيها: أحقًا كان لى أم فماتت/ ربّانى الله فى الدنيا غريبًا/ أم أنى قد خلقت بغير أُمٍ/ أحلّق فى فضاء مُدَلهِم».
قراءة الجرائد فى «أولى ابتدائى»
ينتقل البابا إلى مرحلة لاحقة فى حياته، ويتحدث عن «روضة الأطفال» الخاصة به: «السنة الأولى من حياتى الدراسية اللى هى روضة الأطفال كانت سنة ضائعة، لم آخذ فى تلك السنة أى شىء من العلم، إلى أن جاء أخى الأكبر، وكان موظفًا فى دمنهور، وأخذنى معه إلى هناك، وعشت معه وحدنا».
يضيف البطريرك الراحل: «أخذت فترة الروضة فى سنة واحدة، وانتقلت إلى الابتدائية، وأتذكر فى ذلك الوقت أننى كنت أقرأ الجرائد، وكنت أتصل بأشخاص أكبر منى فى العمر، منهم أخى الأكبر وأصدقاؤه، فكان عقلى ينمو بدرجة أكبر من سنى. السنتان الثانية والثالثة قضيتهما فى الإسكندرية، والرابعة رجعنا إلى أسيوط، وأيضًا كانت سنة رائعة».
ويتابع: «انشغلت أنا وأخى شوقى جيد فى الكنيسة انشغالًا كاملًا بالقداسات الكيرلسى، التى كان يصليها نيافة الأنبا مكاريوس، أسقف أسيوط، الذى صار فيما بعد البابا مكاريوس الثالث، مع عيظات من الارشيدياكون إسكندر، وكان أشهر واعظ فى زمانه كله».
يعود للحديث عن تعليمه: «فى هذه السنة لا أنا قدمت على الشهادة الابتدائية، ولا أخى شوقى قدم على شهادة الكفاءة، وكانت أيضًا سنة ضائعة. أخذنا أخونا الأكبر بعدها إلى بنها، وكان قد انتقل إلى بنها، ودخلت فى مدرسة الأمريكان، وهى مدرسة مسيحية كان لها طابع دينى، وكانت من المدارس الأهلية غير الحكومية، أخذت منها الشهادة الابتدائية، وأتذكر أننى فى تلك السنة حفظت مزمور السماوات: «تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه» كمسابقة فى المدرسة كوفئت عليها بإنجيل ذهبى صارت له قصة كبيرة فى تدرجه من يد إلى أخرى، ليس مجالها الآن».
قصة «سقوط القيد» والفلسفة أمام «طبيب التسنين»
عن الفترة التى أعقبت حصوله على الشهادة الابتدائية، يقول: «بعد الشهادة الابتدائية قضيت سنتين بلا دراسة، لأنه لم تكن هناك غير مدرسة أميرية، والمدرسة الأميرية طلبت شهادة ميلاد، ولم تكن عندى شهادة ميلاد. أنا ولدت فى أغسطس، وتوفيت والدتى، وكانوا منشغلين بها، ولم يقيدوا اسمى فى شهادة ميلاد، ووضعت فى سواقط القيد».
ويشير إلى أنه رفع قضية على والده لأنه لم يقيّده، وبدأت أسرته فى الإجراءات لاستخراج شهادة ميلاد، وتم إرساله إلى طبيب التسنين، الذى خاطبه قائلاً: «إوعى تغلط غلطة يا دكتور»، فاستغرب الطبيب كيف طفل يقول له ذلك، وسأل طالباً منه التوضيح، فرد البابا: «ممكن للإنسان أن يولد بعد وفاة أبيه، يكون أبوه ترك الأم حبلى، لكن لا يمكن أن يولد بعد وفاة والدته».
ويضيف ناقلاً حديثه مع الطبيب: «قلت له والدتى توفيت بحمى النفاس، وهى حمى تصاب بها المرأة الوالدة، ومعروف تاريخ وفاتها، فلا تقيدنى بعد تاريخ وفاتها، وشهادة الوفاة معروفة، وأنا ولدت فى 3 أغسطس، فقيدونى مثل ما قلت تمامًا، لكن هذه الشهادة وصلتنى وأنا فى السنة الثانية الثانوية، بعد أن كنا قد انتقلنا إلى القاهرة، وضاعت منى سنتين أخريين بلا دراسة».
ويتذكر البابا مجموعة من المواقف فى فترة التعليم الابتدائى وفترة الطفولة المبكرة، ويقول: «زرت دير درنكة فى أسيوط وأنا تقريبًا فى الخامسة من عمرى، وكانت عائلات بالمئات والآلاف تذهب هناك لتأخذ بركة السيدة العذراء، وحفظت وأنا فى المرحلة الابتدائية تقريبًا كل التراتيل الموجودة فى الكنيسة».
ويضيف: «كنت أقرأ كتبًا بلا حصر، كل ما يقع تحت أيدى من كتب. فى علم الاجتماع، وفى علم الطب، وفى القصص، وفى الأدب. يعنى مجموعة كبيرة جدًا من الأفكار والمعلومات التى ازدحم بها فكرى، وكانت هى الوسيلة الوحيدة التى أقضى بها وقتى، إذ لم يكن لى رفقاء ألعب معهم. كانت مرحلة مفيدة من ناحية المعرفة والقراءة والنشاط العقلى».
أول مدرسى «العهد الجديد» فى الكلية الإكليريكية
تفرغت للإكليريكية والتدريس فيها مع مدارس الأحد مع المجلة، أصبحت هذه الأمور الثلاثة هى التى تشغل كل وقتى، درّست فى الأول فى الإكليريكية مادة شعوب الكتاب المقدس، فدخلت الحصة ورسمت نهر النيل، وبدأت أتحدث عن الدروس الروحية التى نأخذها من نهر النيل، وهذا نشر فيما بعد فى كتاب (كلمة منفعة)، دخل مسجل الكلية وبص للسبورة وقال: إنت بدرّس إيه؟ قلت: بدرس شعوب الكتاب المقدس فى نهر النيل. فقال طيب، فماعجبهمش هذا الأسلوب فشالونى منه وادونى مادة العهد القديم، فبدأت أدرس مادة العهد القديم بمساعدة الأستاذ كامل متى، الموجه للمادة اللى هو حاليا أبونا ميخائيل متى بالقوصية.
ويضيف: «الأستاذ كامل متى كان يميل إلى أن يتفرغ إلى الكهنوت، ففى آخر سنة له فى الإكليريكية ترك لى منهج مادة العهد القديم كلها، بدأت أدرسها كلها، وهو تفرغ للاستعداد للكهنوت، وحينما صار الأستاذ كامل متى كاهنا فى القوصية، كان المفروض أن أتولى مادة العهد القديم، ولكنى وجدت الأب القمص الموقر إبراهيم عطية، مدير الكلية الإكليريكية، يعين فيها القس منقريوس عوض الله ليتولى مادة العهد القديم، وكان معروفا أنه أستاذ طقوس وكان له كتاب فى الطقوس، فقلت له: إنت متعرفش يا أبونا إنى بدرس المادة دى؟ فقال لى: آه، لكن إحنا لو انت قعدت فى المادة دى مش هنكسب أستاذ جديد يعينه لنا المجلس الملى، فقلت له: اسمع يا أبانا، لا تكن مخاصمة بينى وبينك وبين رعاتى ورعاتك، أنا أعرف أن الأستاذ كامل متى بالكاد ينتهى بمادة العهد القديم ولا يدرس العهد الجديد، فأنا سأتولى تدريس مادة العهد الجديد، وهكذا صرت أول مدرس لمادة العهد الجديد فى الكلية الإكليريكية، فلم تكن هذه المادة موجودة من قبل، بعد أن ذهبت إلى الرهبنة تولى تدريس هذه المادة عبدالمسيح بشارة، حاليا نيافة الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف، وبعد أن ترهب عبدالمسيح بشارة تولى هذه المادة الدكتور موريس تواضروس، لكنى درستها كأول مدرس لها بالكلية الإكليريكية».
ويتابع: «فيما بعد كنا ندرس فى الكلية الإكليريكية المواد التى لم يكن يدرسها أحد من قبل، يعنى أنا لما بدأنا التدريس كانت هناك مواد جديدة لم تدخل الكلية الإكليريكية، مواد جديدة دخلت على يد وهيب عطالله، حاليا نيافة الأنبا غوريغوريوس، ومواد أخرى دخلت على يد نظير جيد والأنبا شنودة لكى نستكمل مناهج الكلية الإكليريكية».
ويواصل: «فى فترة ما قبل الرهبنة كنت أيضا عضوا باللجنة العليا للتربية الكنسية وكانت تجمعنى بالمتنيح الارشيدياكون حبيب جرجس صداقة ومودة وألقيت قصيدة فى يوم الأربعين، حينما توفى وكنت متأثرا به جدا، كنت كلما أزوره أضع فى نفسى أننى لابد أن أتلقى منه كلمة منفعة، يقولها عبر الكلام دون قصد، ولكن تلصق بأذنى ثم تلصق بعد ذلك بمفكرتى وتصبح جزءا من منهجى الروحى فى الحياة، وهكذا كنت أحب الناس الكبار، سواء الكبار فى المنهج الروحى أو رجال الكهنوت عموما».
وعن تقديره لرجال الكهنوت يقول: «حينما جئت من الريف أو الوجه البحرى إلى القاهرة، كنت إذا رأيت كاهنا فى الطريق أظل أجرى حتى ألحق به وأسلم عليه وأقبل يده وأشعر بأننى أخذت بركة، وفى إحدى المرات زار أحد المطارنة كنيستنا فى شبرا، فدخلت فى الزحام وسلمت على الأب المطران، وظللت أتأمل يدى أسبوعا متعمقا فى البركة التى أخذتها هاتان اليدان من سلامهما على المطران».
عظة شنودة التى أبكت المعزين فى جنازة صديقه
يستكمل البابا حديثه: «كنت أدرس فى مدرسة ابتدائية لغة إنجليزية، وكنت أدرس فى مدارس الأحد، ومحررا فى مجلة مدارس الأحد، وأول عدد صدر منها فى أبريل 1947».
ويضيف: «المرة الوحيدة التى وقفت على منبر الكنيسة أتكلم، وبعدين القسيس وقف وقال لى كفاية كده يا ابنى، يمكن تستغربوا إزاى، كنت ساعتها فى سنة رابعة ثانوى، اللى هيه زى الثقافة، واحد من زملائنا توفى واختارونى نيابة عن الطلبة أن أقول كلمة فى الجنازة أو قصيدة، وأنا كنت متأثرًا، وقلت شعرًا مؤثرًا، أول بيت والستات بقوا يدمعوا، وتانى بيت وابتدوا يتنهنهوا، وتالت بيت - يتوقف عن السرد ويضحك كأنه ينظر المشهد بعينه ويستكمل- يبكوا بصوت عالى وبعدين جالى القسيس وقالى كفاية كده يا ابنى فنزلت من على المنبر ودى العظة الوحيدة، الكلمة الوحيدة، التى لم أكملها، وعرفت فيما بعد أنى كنت صغيرا وأن الذى يقف على المنبر فى العزاء يجب أن يقول كلاما يعزى الناس وليس كلاما يثير مشاعر الموجودين، أهى دروس فى الحياة، طبعا أنا مش فاكر الكلام الذى قلته ولو فاكر مش هقوله أحسن تعيطوا».
ويتابع: «فيما بعد تغير أسلوبى فى الوعظ بالجنازات، لدرجة أننى وأنا أسقف للتعليم دعيت فى إحدى المرات لأصلى صلاة الجنازة بالنسبة لأحد أولادنا فى كنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا كان مدرسا فى مدارس الأحد وأكمل دراسته فى كلية الطب وذهب إلى الدير، وعلى ما أظن جرار داس عليه ومات، وكان الموقف مؤثرا جدا، لدرجة أننى لما بدأت أتكلم قلت للناس، أنا لم آت إلى هاهنا لأعزيكم، وإنما لأتلقى العزاء معكم، وبدأت أتكلموشعرت أننى هنفعل، فعلى طول غيرت أسلوب الكلام إلى أسلوب لاهوتى كتابى لكى لا أترك نفسى إلى مشاعرى تضعف أمام الناس».
الخدمة فى مدارس الأحد
ينتقل البابا للحديث عن مرحلة جديدة فى حياته، ويقول: «التحقت بالكلية الإكليريكية، وكعادتى باستمرار كنت الأول فى الكلية وتخرجت أيضا سنة 49، وكنت أول الخريجين بالقسم الليلى الجامعى وعينت بهيئة التدريس بالكلية، وأصبحت حياتى حياة تكريس تقريبا ما عدا سنتين أو ثلاث قضيتها فى التعليم الثانوى والتدريس فى المدرسة الإنجليزية».
يضيف: «منذ ذلك الحين ازداد نشاطى جدًا فى مدارس الأحد، حتى كنت أدرس فى العديد من الفصول، وفى كثير من اجتماعات الشباب، وصرت عضوا باللجنة العليا لمدارس الأحد، ورئيسا لتحرير مجلة مدارس الأحد، ومدرسا بمدارس الرهبان بحلوان، وأفتكر لما إخوتنا فى الجيزة أسسوا بيت التربية المسيحية، اللى بقى بيت المغتربين، جعلونى عضو مجلس إدارة فى هذا البيت، وطبعا ما كناش ندعى إطلاقا لحضور جلسات، يعنى اسم عبارة عن ديكور، وبعد ثلاث سنوات تقريبا سقط نصف الأعضاء بالقرعة لكى ينتخب بدالهم، وأنا كنت من الذين استمرت عضويتهم».
ويتابع: «فى إحدى المرات كنا فى زيارة الأستاذ حبيب جرجس، مدير الكلية الإكليريكية، رئيس مدارس الأحد، فقال له أحد أعضاء مدارس أحد الجيزة: يا حبيب بيه الأستاذ نظير جيد- علىّ يعنى- عضو عامل معانا فى جماعة التربية، فأنا قلت له: هو عضو عامل وعامل عضو؟- يضحك- لأنى ما كنت أتدخل فى شئونهم إطلاقا، كنت عزوفا عن المسائل الإدارية كثيرا».
ويواصل: «أفتكر فى مرة فى بيت مدارس الأحد اللى هوه بيصدر المجلة، كانت مجموعة الأستاذ إدوارد بنيامين قصاد مجموعة الأستاذ ميخائيل عياد، مجموعتان فى الانتخابات، وكل مجموعة تحب أنصارها هما اللى ينجحوا، وأنا كنت محبوبا من كلتيهما، ومش نجحت وأخدت معظم الأصوات، لا نجحت وأخدت كل الأصوات يعنى مجموع الأصوات كلها، كلا الفريقين اختارونى، ولكن كل فريق عايز يكون رئيس مجلس الإدارة منه، ومكسوفين منى إنهم يقولوا لى إنت واخد كل الأصوات وماتبقاش رئيس، فجم فى أول اجتماع وقالوا إحنا بتوع مدارس أحد، ومش بتوع مدارس أحد، فإحنا نعمل قرعة، طبعا القرعة تيجى لأى واحد منهم وبعدين يتنازل إلى كبيرهم، فقام عملوا القرعة فوقعت علىّ أنا برضه، لكن أسلوبى كان غير أسلوبهم تماما، أنا لى الأسلوب الروحى فى الخدمة وهم ليهم الأسلوب الإدارى فى الخدمة، اللى ميتفقش مع أسلوبى، وقضيت فترة كان من نتيجتها أنى استقلت من رئاسة مجلس الإدارة وتفرغت للمجلة، قالوا لى ليه؟ قلت لهم إحنا سبعة أعضاء منا ستة رؤساء وأنا العضو الوحيد، ولما جيت بطريرك أتذكر أن مجلة مدارس الأحد فى ذلك الحين لتحيتى كتبت مقالة عنوانها (العضو الوحيد)».
«الفراهيدى معلمًا»..البطريرك غوّاص فى بحر الشعر
يتطرق البابا خلال رواية مذكراته المسجلة إلى المرحلة الثانوية: «حينما انتقلت إلى التعليم الثانوى كنت من الناحية الفكرية والعقلية أقوى من زملائى جميعًا، وهذا ساعدنى فى التفوق. كنت تقريبًا الأول باستمرار فى التعليم الثانوى، وكنت قويًا جدًا فى الرياضيات والعلوم، ودخلت توجيهى قسم علمى، ثم وجدت أنها لا تتناسب مع هدفى فى الحياة، وبعد نصف السنة حولت إلى توجيهى أدبى».
ويصل إلى محطة مهمة فى محطات حياته، وهى الشعر، ويقول: «هنا فى المرحلة الثانوية تعلمت الشعر، كنت فى الأول أكتب شعرًا لا أستطيع أن أجرؤ أن أسميه شعرًا، لأنى لم أكن أعرف أوزانه فى ذلك الحين، إلى أن عرفت ذلك سنة 1939فى إجازة سنة ثالثة ثانوى عن طريق كتاب اسمه «أهدى سبيل إلى علمى الخليل»، فدرست قواعد الشعر وعلمى العروض والقافية والبحور والأوزان والتفاعيل والسبب والوتد والزحاف والعلة وما يدخل على التفاعيل من تغييرات».
ويضيف: «من أول يوم قرأت فيه استطعت أن أكتب بيتًا من الشعر موزونًا تمامًا، كنت أذهب إلى دار الكتب من الصباح وأرجع الظهر وأذهب إليها بعد الظهر وأرجع فى المساء لأنه لم يكن معى كتاب إلا الكتاب الذى أستعيره من دار الكتب التى كانت فى باب الخلق فى ذلك الحين».
تنتقل الكاميرا مرة أخرى إلى منزل فى حى شبرا، وهو المنزل الذى سكن فيه قداسة البابا مع إخوته، ويتحدث فيه بعض جيرانه عن الفترة التى قضاها وسطهم.
يعود البابا ليتابع قائلًا: «سنة 1939 كان لها حدث تاريخى فى حياتى، لأننى بدأت التدريس فى مدارس الأحد، وكانت أول كنيسة أدرس فيها هى كنيسة العذراء، التابعة للكلية الإكليريكية آنذاك، ثم بدأت أدرس فى فروع كثيرة من فروع مدارس الأحد بالقاهرة، ومنها مارمينا والعذراء بشبرا».
ويضيف: «فى 1946، بدأت أدرس فى كنيسة الأنبا أنطونيوس، ثم صرت أدرس الفصل الكبير فيها، أى الفصل الذى يحضره مدرسون، أو إعداد مدرسين». وتنتقل الكاميرا لتعرض تسجيلًا نادرًا للأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف المتنيح عام 2000، يستعرض فيه علاقته ومعرفته بالبابا منذ 1940، وأيضًا الصفات التى تعرف عليها فى شخصيته، بالإضافة لزميل له من الخدام فى مدارس الأحد، وهو كمال عبدالملك.
حفلات الزجل والشعر الفكاهى فى كلية الآداب
يستكمل البابا شنودة الثالث حديثه ويصل إلى محطة انتقاله إلى كلية الآداب، ويقول: «انتهيت من الثانوية ودخلت كلية الآداب، وفى قسم التاريخ كنت متفوقًا فى دراستى، والأول فى السنة الأولى، وقضيت فترة دراستى بالجامعة تعليمًا مجانيًا، رغم أنها كانت بمصروفات فى ذلك الوقت».
ويعود للحديث عن الشعر: «تعلمت بجوار الشعر، الزجل والموال والشعر الفكاهى، وأشياء كثيرة من هذا النوع، وكنت أدعى إلى حفلات الكلية، وأعرف أن الطلبة يحبون الفكاهة، لذلك كانت غالبية قصائدى من النوع الذى يضحكهم، بل كنت أقف على المنبر فيضحكون قبل أن أقول شيئًا لأنهم يتوقعون شيئًا مرحًا بالنسبة إلىّ».
ويضيف: «كان عميد الكلية هو الأستاذ الدكتور حسن محمود حسن، وهو رئيس قسم التاريخ، وكان منافسه فى العمادة الأستاذ الدكتور محمد عوض محمد، رئيس قسم الجغرافيا، وكانت فكاهاتى ضد قسم الجغرافيا مقبولة من أساتذة القسم ومقبولة أيضًا من الطلبة، لأن الطلبة كانوا ينجحون فى الجغرافيا بشق الأنفس».
ويتذكر إلقاءه فى حفل الكلية، وقت أن كان فى السنة الأولى، زجلًا عنوانه: «حاجة غريبة.. بأدخلها بالعافية فى مخى ما تدخلشى»، قاصدًا بها الجغرافيا، ومن ضمنها
حاجة غريبة بأدخلها بالعافية فى مخى ما تدخلشى
بنشوف فى الأطلس أمريكا وألمانيا وبلاد الدوتشى
ما تقول لى بأى فوتوغرافيا وتقول ما تقول ما هاصدقشى
حاجة غريبة بأدخلها بالعافية فى مخى ما تدخلشى
ورياح مبلولة تجيب مية ورياح جافة متمطرشى
ورياح بتساحل فى الساحل تتبع تعريجة وتمشى
ورياح بتغير وجهتها ورياح تمشى متحودشى
أنا عقلى اتلخبط فين ديا وديا وبين ديا وديا ما أفرقشى
حاجة غريبة بأدخلها بالعافية فى مخى ما تدخلشى».
ويتذكر كذلك كتابته فى سنة ثانية زجلاً عن ترقى عميد الكلية مديرًا عامًا، وكانت درجة لا يصلها إلا قلائل، وخلال حفلة أقيمت لتكريم العميد، قال البابا شعرًا فكاهيًا جاء فيه:
يا ما نفسى شهر واحد بس مش عايزه يزيد
يعملونى فيه عميد أو حتى نائب للعميد
كنت أعمل للسكاشن كلها ترتيب جديد
كنت أخلى الشخص يتخرج تقول زى الحديد
كنت أمشّى الشخص منكم ع العجين ما يلخبطوش
كنت ألغى قسم جغرافية ومش ناقصين مضايقة
متنا من كتر المذاكرة ومش لاقيين ذاكرتنا حايقة
من غير الجغرافية تبقى دراسة الكلية رايقة
مش ظريف الاقتراح ده يخليكم ما تسقطوش
بس أنا يا خسارة عايش وسط ناس مايعبروش
لو كانوا يعرفوا مقدارى كانوا مايسيبونيش
يعنى لو ما كنتش أعرف المناخ ده استوائى أبقى جاهل
يعنى لو ما كنتش أعرف الجبل ده التوائى أبقى جاهل
يعنى لو ما كنتش أعرف بيليزوى وكيتيزوى وميليزوى أبقى جاهل
ده كلام فارغ صحيح ده مقرر مش مريح
دى مضايقة دى سماجة بس لما أبقى عميد
والأمل ده مش بعيد
هأبقى ألغى كل حاجة.
ويعلق على تلك القصيدة قائلاً: «طبعًا كلام صبيان، لأن العميد لا يستطيع أن يلغى قسمًا فى الكلية، لكن التلامذة يبقوا مبسوطين إن الواحد يقولهم هلغى القسم ده مش ناقصين مضايقة».
ويتابع: «كنت فى الكلية أمثل النشاط الدراسى، فكانوا يجتمعون حولى لأخذ أى شىء يحتاجونه فى الدراسة، وكنت أمثل أيضا النشاط الاجتماعى فكانت الحفلات التى نقوم بها أو الرحلات هى التى يقبل عليها كل الطلاب ويشعرون بأنها ستكون من ناحية البرنامج ومن ناحية المصروفات والترتيب كلها تمام، وكنت أيضا فى الكلية أمثل الشعر والزجل والفكاهة».
ويتذكر أيضا قصيدة ألقاها فى وداع طلاب السنة النهائية، بطلب منهم، قال فيها:
يا مَنْ ستتركنا كَم بدى أهديكا
طبلة وكمنجة وزمارة ومزيكا
حتى تُزَمِّرَ فى لهوٍ وفى طربٍ
وترقصُ الجو فوقيكَ وتحتيكا
فاليوم تخرج من لومانِنا فرحا
ونحن نُترَك للتأبيد عاديكا
إنى عَجِبتَ لِقسمٍ لا نصيب له
إحتت لا خيرَ لى فيه ولا ليكا
وقد بصرت لباب النحسِ مُنْفَتِحا
بضلفتيهِ وباب الحظ مسكوكا
كم بدّى مبخرةٌ حتى أُبَخِّرَكَ
من عين هيئة تدريس تُعاديكا
من عين نصحى وعوّاد ومن بدوى
ومن خفاجة ومن قومٍ تحدوكا
جماعةٌ يهلك التلميذُ بينهمُ
مهما اشتغلتَ لهم شغل البلوتيكا
ويشير إلى قاعدة فى «اللاتينى» أتعبت الطلبة، وتناولها فى القصيدة ذاتها: «كان عندنا فى اللاتينى قواعد صعبة زى أوت زى إف بالإنجليزى تقول إف زائد برزينت يساوى فيوتشر. قاعدة أوت كده وقاعدة زيرون، زيرون تلقيه فى كل جملة».
وكتب عن ذلك:
قل هل برمت من أوت مع قواعدها
وما وجدت بها أشياء ترضيكا
أم هل سئمت من الزيروند مقتحما
يقول فى كل سطر يا فيك لا أخفيك
ويستكمل: «كان كل حاجة فيها زيرون، الطلبة كانوا يبقوا مبسوطين وحبايبى ونقعد مع بعض ومنبطلش ضحك أبدا، ما ابتدناش نبطل ضحك إلا لما دخلنا فى الحياة الرسمية واتخرجنا بقينا جد كده، لكن حياتنا فى الدراسة كانت حياة كلها فرح وكلها مرح. زملائى فى الكلية من سنة تانية يعنى اتأخروا فى الكلية شوية، كنا 140 طالبا فى القسم، نجح مننا 23 كنت واحدًا منهم وبقية زملائى اتخرجوا بعد منا».
البابا فى الجيش.. الأول فى كلية الضباط الاحتياط
وانتقل البابا، حسبما يروى، من الشعر الزجلى إلى الدينى، ويقول: «فى السنة الثالثة بالكلية بدأ الشعر عندى يتخذ مجالا دينيا، أتذكر قصيدة: (هو ذا الثوب خذيه إن قلبى ليس فيه) كانت فى السنة التالتة وأنا فى كلية الآداب. الشعر الدينى بدأ يزداد عندى وتركت باقى أنواع الشعر والفكاهة والحاجات دى، وبدأ اتجاهى فى الرهبنة».
ويضيف: «فى سنة رابعة بكلية الآداب، اللى هى 46 / 47 حدث أمران، الأول أننى التحقت بالكلية الإكليريكية القسم المسائى وأنا طالب فى كلية الآداب، والثانى أننى بدأت أدرس فى مدرسة إنجليزية فى سراى القبة. جدول بياخد الوقت كله». وتنطلق الكاميرا مرة أخرى لتلتقى بعض من درّس لهم قداسة البابا فى ذلك الوقت مادة اللغة العربية وكانوا يطلقون عليه مستر روفايل، نسبة إلى اسم جده، فاسمه بالكامل «نظير جيد روفائيل».
ويعود البابا ليقول: «تخرجت سنة 47، وفى الوقت نفسه تخرجت فى كلية الضباط الاحتياط وكنت أول دفعتى، فترة الجيش علمتنا أشياء كثيرة، منها النظام والجدية فى الحياة وخدمة الإنسان لنفسه إلى ما فيها من فوائد صحية أيضا يتميز بها كل ضباط الجيش».
ويسترجع ذكرياته فى كلية الضباط الاحيتاط: «كنت جادا جدا فى عسكريتى وكنت محبوبا من زملائى، ومن الضباط أساتذتى، وبالنسبة لإخوتى المسلمين كانوا يطلبوننى فى إطعامهم فى الميس، خاصة فى رمضان».
وينتقل بنا الفيلم التسجيلى إلى أحد المجندين ويسمى «جعفر» الذى خدم مع البابا بالقوات المسلحة، ويذكر بعضا من صفات شخصيته وتعاملاته معهم داخل الوحدة، منها أنه قال إن طعامه المفضل هو العيش والملح، واستخرج «عم جعفر» من محفظته صورة نادرة جدا للبابا مرتديا الزى العسكرى.
يأخذنا الفيلم التسجيلى فى رحلة أخرى مع أحد تلاميذه فى مدارس الأحد، والذى أصبح صديقًا مقربًا له، ويحكى كيف كان ينظم وقته بين الخدمة والدراسة والعمل مدرسا أيضا.
ويذكر أن البابا كان يشارك زملاءه فى أثناء خدمته بالقوات المسلحة صيام رمضان فكان يقوم بإيقاظهم لتناول وجبة السحور وكان يشاركهم فيها.
وأضاف أن ليلة ذهاب قداسة البابا إلى الدير تقابل معه فى الشارع بشبرا، وقال لى أنا عامل ورقة بكل حاجة حتى أنت حاجز مجلدات مدارس الأحد وأخرج من جيبه ورقة مدونا بها بعض الملاحظات التى سوف يقوم بها قبل ذهابه إلى الدير.