الأقباط متحدون - إبراءُ ذِمّة... وشهادة
  • ٢١:٣٤
  • الاثنين , ٢٤ ابريل ٢٠١٧
English version

إبراءُ ذِمّة... وشهادة

مقالات مختارة | بقلم : فاطمة ناعوت

٤١: ٠٦ م +02:00 EET

الاثنين ٢٤ ابريل ٢٠١٧

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

 لستُ أدرى إن كانت ميزةً أم عيبًا فى تركيبتى الذهنية والنفسية. أرفضُ التسليم بأمر أراه ناتئًا عن منظومة المنطق والعقل والتحضُّر، مهما شاعَ ذلك الأمرُ، وانتشر وتكرر كلَّ يومٍ، حتى أصبح من طبائع الأمور التى لا تُدهشُ الناس. تظلُّ تُدهشُنى. وأقاوم الاعتياد عليها، وأستغربُها كأنها تحدث للمرة الأولى. إن أنت اعتدتَ على مشهد رجل يضرب طفلا، أو يهين امرأةً، أو يعذّب حيوانًا، أو يقطع شجرة، أو يُلوّث الطريق بالنفايات، اعلمْ أنك فى خطر. مرّنْ نفسَك على الدهشة من كل قبحٍ تراه، مهما صار شائعًا، كأنك تراه للمرة الأولى. لماذا؟ حتى تقاومه. لأنك لو اعتدت على القبح، صار بالنسبة لك عاديًّا. والإنسانُ لا يقاوم العادات المتكررة. تلك حيلتى الذهنية التى مرّنتُ نفسى عليها منذ طفولتى، لأعصم نفسى من فعل ما يرفضه عقلى، لمجرد أن «كل الناس بتعمل كده».

 
لهذا لا تبرحنى الدهشةُ كلّما اصطدمتُ بمحنة طائفية أو تمييز عَقَدى. أندهش كأنما أرى ذلك القبح للمرة الأولى. فكلما فُجّرت كنيسة، أو قُتل مسيحيٌّ على يد تكفيرى، أُصدَم وأغضب وأرفض أن أُسلّم بحدوث ما يحدث ويتكرر منذ أربعين عامًا.
 
لكن يبدو أن عقلى الذى أُجبره على أن يرى كلَّ مأساة كأنها الأولى، يُسجّل الكوارثَ، فى غفلة منى، على عدّادٍ خفيّ يعمل فى المنطقة المظلمة من عقلى: اللاوعى.
 
وقت تفجير كنيسة البطرسية بالعباسية مع نهاية العام الماضى، تأزمتُ كثيرًا ولم أخرج من تلك المحنة إلا حين أقنعتُ نفسى بأن تلك ستكون آخر المحن الطائفية التى تمرُّ بها مصر. على أى أساس قلتُ لنفسى هذا؟ لا أدرى. مجرد أمنية حوّلها عقلى إلى عهد ويقين بأن مصر لن تسمح، بعد اليوم، أن يُهدم فيها دارُ عبادة أو يُقتل فيها مسالمون عُزّل يُصلّون. هكذا واسيتُ نفسى لأخرج من المحنة وأكمل حياتى. لهذا حين وقع تفجير كنيسة طنطا ثم الأسكندرية فى يوم واحد الأحد قبل الماضى فى «عيد السعف»، انهرتُ تمامًا، وأدركتُ أننى كنت أضحكُ على نفسى، وتيقنتُ أن الأمرَ أكبرُ من قدرتى على التحمّل. وكان لابد من شيء أفعله لأصمد وأقاوم وأكمل حياتى. وكان القلمُ طبيبى.
 
كتبتُ ما أطلقتُ عليه «إبراء ذمّة»، لأصالحَ نفسى على نفسى، وأُشهِدَ نفسى على أننى بريئةٌ من دم الأبرياء. وكانت القطعة التالية التى أوثّقها اليومَ فى مقالى هذا:
 
أقباطَ مصر المسيحيين، أنتم أكثر سموًّا وشرفًا وغفرانًا مما نستحقّ. أقباط مصر المسيحيين أنتم أكثر وطنيةً من كل أدعياء الوطنية والتديّن. أقباط مصر المسيحيين، لن أطلب منكم أن تسامحونا على ما يفعل السفهاءُ منّا كل يوم فى حقكّم. لأننى أعلمُ أنكم مجبولون على السماحة والغفران، وتلاقون إساءاتنا المتكررة بالغفران. أقرُّ أننا مدينون لكم بالكثير وأننا غير قادرين على سداد ديوننا نحوكم مهما فعلنا.
 
الآن لم يعد بوسعى حتى تقديم واجبات العزاء لكم لأننى غارقةٌ فى الشعور بالخجل والخزى مما نفعله بكم منذ عقود طوال، وإلى أمد لا يعلمه إلا الله. كلما فعلنا بكم سخافةً أو تفجيرًا أو مجزرة، أعزّى نفسى بأنها الأخيرة، لكنها لا تكون الأخيرة، وتتبعها سخافةٌ وسخافاتٌ وتفجيرٌ وتفجيرات، ومذبحةٌ ومذابحُ، فتظلُّ رأسى تنخفضُ أمامكم يومًا بعد يوم حتى بِتُّ أتمنى أن تنشقَّ الأرضُ وتبتلعنى قبل أن ألتقى مسيحيًّا لأقول له: أُعزيّك، البقاء لله، سامحني! منذ تفجيرى طنطا والأسكندرية، لم أستطع أن أنام وارتفع ضغطى ولم أسع حتى لعلاج لأننى أرجو أن أرتاح من هذه الدنيا الظالمة المدنسة بكل سوءات العالم.
 
لحسن الحظ أننى كنت يومها خارج الوطن حتى لا يرى أطفالى دموعى فيجزعون ويشعرون بالخجل من النفس كما شعرت أنا. لن أقول: أعتذر لكم! ليس فقط لأنكم لا تنتظرون اعتذارى، بل لأن الاعتذار فقد معناه وبات لونًا من البلاهة والاستعباط الذى لا يليق بى، لأننى حتى لا أملكُ يقينًا أنه سيكون اعتذارى الأخير. تعبتُ من كثرة أخطائنا، وتعبتُ من كثرة غفرانكم، وتعبتُ من الرجاء بأن ينتهى كل هذا دون أن ينتهى، وتعبتُ من عدم القدرة على فهم ما يحدث حولى.
 
عقلى لا يستوعب أن يقتل أحدٌ أحدًا حتى مع وجود سبب للقتل مثل الثأر أو القصاص أو غيره. فكيف أستوعبُ أن يقتل إنسانٌ إنسانًا أعزلَ لا يعرفه وهو يصلي! وهو يصلي! وهو يصلى فى عيده! أشهدُ أننى لم أسمع فى كنيسة كلمةً تسيء لى كمسلمة، ولا لدينى ولا لإنسان. أشهدُ أننى أسمعكم فى كنائسكم تدعون لمصر ونيل مصر ورئيس مصر وللمصريين مسلمين قبل مسيحيين. أشهدُ أنكم ترعون فى طقوسكم الخدمية أبناءنا المسلمين الفقراء كما ترعون أطفالكم المسيحيين.
 
أشهد أن راهبةً مسيحية لم ألتق بها إلا مرة واحدة فى حياتى تُصلّى منذ سنوات لابنى المريض «عمر نبيل» فى كل صلواتها حتى يشفيه الله. أشهد أن مسيحيين قد ساندونى فى محنتى بما لا مجال لأن أنساه ما حييت. أشهدُ أن صلوات كثيرة رُفعت باسمى على مذابحكم فى محنتى طوال عامين؛ أنا المسلمة التى لم تقدم لكم أى شيء.أشهدُ أنكم لا تعرفون إلا الحب لكل الناس دون قيد أو شرط. ومَن يفعل غير هذا منكم تتبرأون منه ولا تقبلونه بينكم لأنه لا يسير على خطى السيد المسيح، رسول السلام. أشهدُ أننى تعلمت من أساتذتى المسيحيين فى مراحل التعليم المختلفة ألا أكره حتى من آذاني؛ لأن الكراهية دنسٌ للنفس.
 
وألا أقابل الإساءة بالإساءة. أشهدُ أن مفاتيح بيتى وسيارتى وكافة شؤون حياتى تكون فى أسفارى فى حوزة أسرة مسيحية شريفة ترعى مصالحى وتخاف علىّ أكثر مما أفعلُ أنا لنفسى وأكثر مما يفعل أقربائى وشقيقى الوحيد. وأشهدُ أننى لم يعد فى جعبتى كلماتٌ تعبر عما فى نفسى من حزن وخجل وفقدان أمل فى هذا العالم.
 
هذا العالم لم يعد صالحًا للحياة. هذا العالم صار أبشع من قدرتى على الاحتمال. هذا العالم تعسٌ ودنسٌ وغير جميل. سامحنى يا ربُّ فأنا لا ألعنُ الدهرَ؛ بل ألعن الفحشاء والوحشية والغدر وانعدام الإنسانية فى بنى الإنسان. وفى بنى جَلدتى. وفى بنى دينى الذى يحثنا على الرحمة والتراحم. أقباطَ مصر، أقدِّم لكم احترامى، وأضع بين أيادكم خجلى وشعورى بالعار. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
نقلا عن المصرى اليوم
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع