رفعت السعيد يواصل ذكرياته: «هيكل» اخترق الجهاز الإدارى لـ«أخبار اليوم» وأبلغ «عبدالناصر» بتعرض المؤسسة للخسائر
أخبار مصرية | الوطن
٠١:
١١
ص +02:00 EET
الأحد ٧ مايو ٢٠١٧
يواصل الدكتور رفعت السعيد الكتابة عن عمله الصحفى وعن البدايات فى كتابه «مقاربات مع ثلاثة رؤساء ومشير» عن المنافسة الحامية التى كانت بين «أخبار اليوم» التى كانت أكثر توزيعاً وبين «الأهرام» التى كانت الأكثر قرباً للسلطة.
وكانت هناك مشكلة يومية وهى التعرف على مانشيت «الأهرام» وهى أزمة يومية تظهر بقوة فى الخامسة عصراً.
فى كتابه «مقاربات مع ثلاثة رؤساء.. ومشير» يروى ذكرياته مع «ناصر والسادات ومبارك وطنطاوى»
ينتقل الرجل بسطور كتابه إلى اتصال تليفونى -بلا مناسبة- أجراه الرئيس بخالد محيى الدين وسأله عن الأحوال المالية للمؤسسة.. وبدأت الشكوك أن هيكل قد اخترق الجهاز الإدارى الأعلى فى «أخبار اليوم» ليرتب حسابات توحى بالخسائر.. وانتهى الأمر باستقالة خالد محيى الدين وتولى هيكل رئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم بجانب رئاسته الأهرام، وكان الأمر من النوادر.. وصباح هذا اليوم أصر «خالد» أن يغادر قبل مجىء هيكل وكان اليوم عصيباً ومرت الساعات مريرة والبكاء كان يعلو بحرارة غير مفتعلة.. صفحات الكتاب تقودنا إلى رحلة «السعيد» بعد رحيل خالد محيى الدين عن أخبار اليوم وكيف سأله هيكل: «انت ناوى على إيه.. ويعنى مش عايز تشتغل معايا».
ويذهب «السعيد» إلى ما وصفه بـ«قصة» ناصرية أخرى وأخيرة.. قال.. لست أدرى لماذا طلب عبدالناصر خلال افتتاحه لمبنى الأهرام «الجديد» أن يجتمع بمحررى الطليعة.. وكان هيكل فى صدر الاجتماع وتحدث يومها رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات، الدكتور إبراهيم سعد الدين، وتحدث عن الضغط على بعض مؤسسات القطاع العام والخسائر.. وقاطعه عبدالناصر: «انت صرحت بده لمجلة المصور وانت كرئيس جهاز ممنوع عليك التصريحات.. أنا أصدرت قرار بفصلك» ونزل علينا الخبر كـ«دش بارد».
فى «أخبار اليوم» كان الأمر أكثر تعقيداً، فالمنافسة الحامية بين «أخبار اليوم»، التى كانت الأكثر توزيعاً، وبين «الأهرام»، التى كان الأكثر قرباً من السلطة، وفوق هذا كله الخلاف المكتوم بين خالد محيى الدين و«هيكل». وكان أكثر ما يقلق الأستاذ هيكل هو المقارنة بين توزيع الصحيفتين، وبالدقة التعرف على حقيقة توزيع «الأهرام» ولست أريد أن أزعم أننا كنا أبرياء، فالمصادفة وحدها هى التى أعطت أحد رفاقنا موقعاً فى إدارة توزيع «الأهرام»، وبالتالى كان معنا التوزيع الحقيقى وكان أقل وإن ليس كثيراً جداً من «الأخبار». وإن كان أهرام يوم الجمعة يتفوق علينا وإن ليس كثيراً جداً، وبقيت مشكلة أخرى وهى التعرف على مانشيت «الأهرام»، وكان «هيكل» يمتلك مندوباً عندنا فى الزنكوغراف لينقل له المانشيت، وبعد معاناة شديدة استطاع الأمير العطار (سكرتير عام التحرير) التوصل إلى مندوب لنا فى زنكوغراف فى «الأهرام»، وفى نحو الخامسة من بعد ظهر كل يوم كانت كل جريدة تمتلك مانشيت الأخرى، لكن المشكلة الحقيقية كان تكمن فى تعليمات من مكتب الرئيس «ممنوع نشر خبر كذا» ونلتزم نحن لنجد «الأهرام» يستخدمه كمانشيت.
وأذكر مثلاً ذات عصر يوم رتيب الأحداث لا تجد فيه خبراً يصلح كمانشيت مهما فتشت أو افتعلت ما يصلح كمانشيت يجذب القارئ، يومها اندفع إلى حجرتى الأستاذ جنيدى خلف الله، محرر الشئون العربية، وقال: عايز الأستاذ خالد فوراً فقلت عنده اجتماع المانشيت (وهو اجتماع اعتاد الأستاذ خالد أن يعقده الخامسة عصراً مع رؤساء التحرير للاتفاق على المانشيت)، فقال يلهث: «أنا معايا المانشيت»، وفتحت الباب لأدخل جنيدى خلف الله دون استئذان، ولم يترك الأستاذ جنيدى لأحد أن ينطق قال: «الريس مسافر الليلة إلى السعودية»، ونزل الخبر كالصاعقة، فالسعودية كانت النصل الحادث فى ظهر مصر أثناء حرب اليمن، ولما تشكك الجالسون رد الصحفى المتمرس والوثيق الصلات: «الليلة الريس مسافر من ميناء كذا على قطعة بحرية اسمها كذا وأنا مش صغير ومتأكد من الخبر». ولم يكن أحدنا يعرف أين هذا الميناء، وأحضر موسى صبرى خريطة كبيرة لنجد عليها نقطة صغيرة جداً باسم الميناء. وأمسك موسى صبرى بقلم ليكتب الخبر وكتب المانشيت «الرئيس فى السعودية» وسمعت تليفون مكتبى يرن (كان الأستاذ خالد فى اجتماعاته يغلق تليفونه ويترك سماعة التحويلة عندى شغالة)، وكان على الطرف الآخر: «يمنع نشر خبر رحلة الرئيس للسعودية. مزق موسى صبرى الورقة وانفض الاجتماع والجميع صامتين، وبعدها بدقائق أدخلت إلى الأستاذ خالد ورقة أملاها مندوبنا بـ«الأهرام» وعليها ذات المانشيت «عبدالناصر فى السعودية»، وقلت له كلم الرئيس، فابتسم ابتسامة واهنة: «هى مترتبة كده».
الرئيس اتصل بخالد محيى الدين وقال له: «أنا سامع إن الأحوال المالية للمؤسسة مش كويسة».. وقدم خالد محيى الدين استقالته.. وتولى «هيكل» إدارة أخبار اليوم بجانب الأهرام من نوادر الصحافة الناصرية.. وتوجهت إلى مكتب «عبدالناصر» لتسليم استقالة «محيى الدين» وصدر القرار بعدها بساعتين.. و«هيكل» سألنى عن المرتب وقلت له «50 جنيه» ورد: خالد مابيعرفش يقدر مساعديه
وتتواصل محاولات الإغواء والإغراء من جوانب مختلفة ومتعددة، وفى كل مرة كان صوت خالد محيى الدين يرن فى أعماقى لن يستطيعوا الوصول إلى بسهولة، فحذار أن يصطادونى عن طريقك. وكان حذرى أكثر ما يكون من بعض محررات كن يعملن كمصادر لـ«الأخبار» وذوات مقدرة على الإغواء والإغراء، وفشلت هذه المحاولات جميعاً، ثم فجأة أتانى تليفون من المدير العام الأستاذ عبدالعزيز عبدالعليم، الذى كان يعرف اعتيادى الحضور مبكراً لأرتب نفسى وملفاتى لعرضها على رئيس مجلس الإدارة، وقال: «أنا باعت لمعاليك مظروف أرجوك توقع على الإيصال». وأصل الحكاية أن صحفياً نشيطاً فى «الأخبار» اشتهر بخبطات صحفية (وفق مدرسة على ومصطفى أمين) قد حقق انتصارات ومنها مثلاً أنه ارتدى ثياب شحات وجلس فى ميدان محطة الرمل بالإسكندرية لعدة أيام ونشرت «الأخبار» ريبورتاجه متوجاً بعشرات الصور ومعها تعليقات على المحسنين ومنهم.. وكيف أنه جمع فى اليوم الواحد مئات من الجنيهات، ومرة أخرى اشتغل كعامل تراحيل وأيضاً عشرات الصور فكاميرات «الأخبار» لاحقته خفية والريبورتاجات صعدت بالتوزيع بما دفعه إلى نشر ريبورتاجات مفبركة وصور مفبركة أيضاً.. وكانت خبطات ناجحة فى كل الأحوال. وعلى أية حال وصلنى المظروف «وبداخله مبلغ كبير من المال ومعه إيصال تسلمت أنا... مبلغ كذا بدل انتقال ومبيت عشرة أيام فى مرسى مطروح للمشاركة مع الأستاذ «ع. ح» لعمل تحقيق صحفى عن عمليات التهريب من ليبيا عبر مرسى مطروح. (وكان عبدالناصر قد تحدث فى إحدى خطبه عن أفواج الحمير المدربة التى تعرف طريقها إلى ليبيا وتعود وحدها محملة بالبضائع.. والتقط الصحفى الناصح هذه المعلومات وحصل على عدد من الحمير والتقط عشرات من الصور لها وهى محملة بالبضائع فى منطقة صخور ورمال المقطم.. وأعد بقدرة صحفية فذة تحقيقاً صحفياً جميلاً..
وكان المطلوب منى ببساطة أن أتسلم مبلغاً كبيراً وأن أستمتع باسمى منشوراً على ريبورتاج ناجح.. وأمسكت بالقلم.. وكتبت: «لم أسافر إلى مرسى مطروح ولم أشارك فى إعداد تحقيق صحفى كهذا، ومن ثم فقد تم إرسال المبلغ لى بطريق الخطأ». وارتجت المؤسسة كلها ولكن فى صمت بين الكبار، فالتحقيق فى المطبعة وعليه اسمى، وأمر الصرف صدر من رئيس القسم وبتوقيعه والمدير العام كان يتصل بى يومياً فى الأيام التى قيل فيها إننى مسافر فى مرسى مطروح، والصحفى صرف المكافأة وبدل المبيت لعشرة أيام وكذلك المصور. لكن المؤسسة كانت -إن أرادت- تمتلك عبقرية مداواة مثل هذه الأخطاء وكأنها لم تكن. والغريب أن أحداً لم يفاتحنى فى الأمر.. وأبلغت الأستاذ خالد فقال هم أرادوا اصطيادك فاصطدتهم. والمثير للدهشة أنهم انتظروا يومين أو ثلاثة ليروا ما إذا كنت سأثير الموضوع أو أن الأستاذ خالد سيثيره أم لا.. فلما تأكدوا من صمتنا.. نشر التحقيق الصحفى وكل ما هناك أنهم رفعوا اسمى من التحقيق المنشور. ولأن لكل تلصص تلصصاً مضاداً فقد وصل الأمر لـ«عبدالناصر» ليرد تأنيباً بأن المؤسسة سايبة.
ونأتى إلى واقعة أخرى.. فصباح ذات يوم (وكانت المنافسة والمناكفة مستمرة بين الأخبار والأهرام) اتصل الرئيس بالأستاذ خالد ليسأل -وبلا أى مناسبة- عن الأحوال المالية للمؤسسة، ورد الأستاذ خالد: «كويسة»، وأجاب «عبدالناصر» بلهجة فيها تهكم: «لكن أنا سامع إنها مش كويسة» (وهنا بدأت شكوك أن «هيكل» قد اخترق الجهاز الإدارى الأعلى فى «أخبار اليوم» ليرتب حسابات توحى بالخسائر)، واتصل الأستاذ خالد طالباً تقريراً سريعاً عن الأوضاع المالية للمؤسسة، وكأن مسئولى الحسابات كانوا يعرفون ومستعدين فقد أحضروا التقرير فى دقائق.. فتحت المظروف وفوجئت بخسائر صاعقة تهدم كامل تجربة خالد محيى الدين بالمؤسسة. ودخلت على الأستاذ خالد مستفزاً بل وثائراً وقلت يا أستاذ خالد أنت مش مسئول، فأنت لا تتدخل فى الإدارة ولا الحسابات وإذا خسرت المؤسسة فهم مسئولون ويجب أن يستقيلوا. وكلفنى بأن اتصل بالدكتور قاسم فرحات، المدير العام، كى يدعو مجلس المديرين إلى اجتماع فورى. فحضروا مهرولين.. كان الأستاذ خالد هادئاً هدوءاً أغاظنى حتى اكتمل عقد المديرين وفجأة فجّر القنبلة.. المؤسسة خاسرة وأنتم المسئولون وعليكم أن تحددوا المسئول وتقرروا كيف يعاقب.. انتقلت كرة اللهب الصاعقة إليهم.. وتلاقت نظرات تعرف بعضها البعض وتعرف من دبر؟ ومن نفذ؟.. ولكن كبيرهم د. قاسم، صاحب الخبرة الأكبر والدهاء الذى لا يقاوم. قال: «خسائر إزاى يا أفندم؟»، وأمسك بالورق وكأنه يراه لأول مرة وبخبرة لا تبارى استخرج المبالغ المخبأة: «شوف يا أفندم فيه مبالغ من حصيلة المبيعات تم تحصيلها لكن لم ترصد بعد عند الحسابات، وفيه مبالغ من حصيلة الإعلانات يجرى الآن تحصيلها وننتظر تجميعها لترصد مجمعة، واشتراكات يجرى تجميعها فى قسم الاشتراكات، وثمن طباعة للغير لم يتم تحصيله.. ثم صاح بحماس إزاى يا جماعة كل المبالغ دى مدخلتش الحسابات؟»، وتكشفت أبعاد اللعبة، وهى التباطؤ لشهرين أو ثلاثة فى تحصيل المستحقات فتبدو المؤسسة خاسرة ويطير الخبر للرئيس. وبسرعة شديدة أعدت ورقة حسابات جديدة صحيحة ومتخمة بالأرباح وأرسلت لـ«عبدالناصر» ليتأكد من كذب ما وصله من معلومات.
وكانت ثمة اختراقات داخلية، فتعليمات «عبدالناصر» للأستاذ خالد أن يشعر «مصطفى وعلى أمين» بحالة من الهدوء والاسترخاء تجاههما، فقد كان يستعد لهما بقضية التجسس الشهيرة، وأستطيع أن أؤكد أنه برغم الدفاعات والمصدات التى حاولنا ترتيبها إلا أنهما كانا يمتلكان نفوذاً طاغياً فى مؤسسة بنياها بنفسيهما واختارا محرريها بنفسيهما.. وبرغم وجود شبكة من خطوط يقظة فى كل قسم وكل إدارة وكل مطبوع.. إلا أن على أمين نجح فى خداع الجميع عبر مسلسل تابع نشره فى مجلة «هى» (وكان يرأس تحريرها دون رقابة من أحد لاعتقادنا أنها مجلة غير سياسية وغير مهمة).
«محيى الدين» شعر بإهانة شديدة عندما انخفضت «أخبار اليوم» لـ«8 صفحات» فتحدث إلى «عبدالناصر» وقدم استقالته.. وتعليمات «عبدالناصر» بأن يشعر «مصطفى وعلى أمين» بالهدوء استعداداً لتوجيه تهمة التجسس ضدهما
وكان المسلسل بعنوان «مصنع الشموع» وبعد فترة وصل مظروف من مكتب الرئيس به حلقات القصة وخطوط حمراء تحت أسطر معينة وكانت محاولة فك رموز بسيطة وربط الأسطر الحمراء مع بعضها كافية تماماً لكشف المقصود والحكاية ببساطة عن شقيقين (على ومصطفى أمين) أحزنهما أن القرية مظلمة وبلا أى نور فى المساء فقررا إنشاء مصنع للشموع (أخبار اليوم) لكن العمدة المستبد (عبدالناصر) يرفض أن تضاء القرية، فأبعد الشقيقين عن السلطة الحقيقية فى المصنع وأتى مكانهما بشيخ الخفر (خالد محيى الدين) ليدير المصنع، وأتى شيخ الخفر ومعه عدد من الأجلاف الذين بلا خبرة (نحن) ويوشك المصنع أن يدمر ويعود الظلام للقرية من جديد. ولم نفعل شيئاً، فالتعليمات هى لا تصادم معهما. حتى تم القبض عليهما، وأصبحت ساحة «أخبار اليوم» مفتوحة أمام الأستاذ هيكل الذى كان لا يستطيع مواجهتهما مهنياً.
ثم تجمعت سحب كثيرة وتراكمت لتوحى بقرب هطول المطر.. فالإشاعات تملأ المؤسسة أن المشير عامر غاضب من سيطرة اليسار على «أخبار اليوم».. وإن كان المشير على علاقة طيبة بالأستاذ خالد ولو شكلياً، ثم أثيرت مسألة اقتصادية؛ ففى جلسة الأمانة العامة للاتحاد الاشتراكى تحدث الرئيس مطولاً عن تسابق الصحف فى زيادة عدد الصفحات بحثاً عن توزيع أزيد، خاصة فى الأعداد الأسبوعية السبت (أخبار اليوم) - الخميس (الجمهورية) - الجمعة (الأهرام)، ووجه الرئيس حديثه للأستاذ خالد بصفته أمين الصحافة بتقليل الصفحات توفيراً للنقد الأجنبى الذى ينفق لاستيراد ورق الصحف.
«هيكل» سألنى: أنت ناوى على إيه.. قلت له أفضل أرجع التحرير.. فقال لى يعنى مش عاوز تشتغل معايا؟.. و«عبدالناصر» قال لـ«خالد محيى الدين» بغضب شديد: هو سى رفعت ده اتولد من بطن أمه صحفى كلم سامى يشوف له شغلانة تانية.. واخترت العمل فى وكالة أنباء الشرق الأوسط.. و«سعد الدين» كان رئيساً لجهاز المحاسبات وتحدث فى اجتماع عن ملاحظات حول الوضع الاقتصادى.. فقاطعه «عبدالناصر» وقال له: «الكلام ده أنت صرحت به لمجلة المصور.. ومش مسموح لك تدلى بأحاديث صحفية.. أنت مفصول»
ووجه الأستاذ خالد الدعوة لأمانة الصحافة التى تضم كل رؤساء مجالس الإدارة، ومنهم طبعاً الأستاذ هيكل.. وعرض عليهم الأمر وتقرر بالإجماع ألا يزيد العدد الأسبوعى عن ثمانى صفحات، وقال الأستاذ خالد سأبدأ أنا من السبت المقبل وبالفعل دار صراع مرير فى ديسك «أخبار اليوم» لاستبعاد أبواب بأكملها وتحقيقات وموضوعات ومقالات كثيرة وحتى مقال الأستاذ خالد جرى اختصار مساحته.. وكان الضغط يتم تحت مقولة هذه تعليمات الرئيس وسوف تسرى على الجميع.. وصدرت «أخبار اليوم» فى ثمانى صفحات وبعدها الجمهورية يوم الخميس فى ثمانى صفحات، ثم كان عدد أهرام الجمعة فى 16 صفحة وصعق الجميع.. وجرت همسات وتساؤلات بين الجميع وشعر الأستاذ خالد بإهانة شديدة لوضعه فى مؤسسة «أخبار اليوم» ووضعه كأمين للصحافة فى الاتحاد الاشتراكى.. وأسرع «خالد» الغاضب ليكلم «عبدالناصر» (وكان الكمين معداً) فرد «عبدالناصر» ببرود متحدثاً بعيداً عن الموضوع وقائلاً إن حكيم (عبدالحكيم عامر) غاضب من سيطرة اليسار على «أخبار اليوم»، ثم أضاف: «وأنا بصراحة زهقت من المشاكسات مع هيكل»، فرد الأستاذ خالد: «إذاً أستقيل»، انتهز «عبدالناصر الفرصة وقال له «أوكى»، واتفقا أن يرسل الأستاذ خالد استقالته مكتوبة ومغلقة وأن يرسلها «مع الواد بتاعه» (أى أنا) ليسلمها فى يد «عبدالناصر» شخصياً.. فقد كان من الواضح أنها مليئة بعتاب شخصى على كل ما كان من تصرفات معه. كما كان الاتفاق أن يستمر الأستاذ خالد فى كتابة مقاله الأسبوعى حفاظاً على كرامته وأن يسافر مع بوسى (سميحة ابنة الأستاذ خالد) إلى لندن لمحاولة علاجها وأن أقوم أنا بمقابلة الأستاذ هيكل لتسليمه مفتاح خزينة رئيس مجلس الإدارة وما تراكم من أوراق «للعلم».
وبإحدى سيارات «أخبار اليوم» توجهت إلى بيت الرئيس.. كان اسمى مفتاحاً فهم منتظرون، تنحى الحاجز واقتادنى شخص عبر حديقة متواضعة ويمكن وصفها بأنها شبه معتنى بها، والرجل توقف أمام أحد الأبواب وأشار بيده وتراجع سريعاً.. وبخطوات شديدة الحذر أطل رأسى إلى داخل الحجرة لأجد شخصاً مهيباً واقفاً وأمامه على المكتب قفص من حبات مشمش يبدو من حجمها أنها ليست مصرية والرجل وبعين فاحصة ويد متأنية يمسك بكل ثمرة يقلبها من كل جانب وكأنه يفحص قطعة من الجواهر الثمينة.. أنا واقف فى صمت وهو منهمك فى مهمته ثم التفت إلىّ فجأة فنطقت باسمى ترك المشمش وسرت خلفه.. درجات سلالم محدودة ثم أدخلنى إلى غرفة بها شخص أذناه مميزتان جداً (محمود فهيم) السكرتير الشخصى للرئيس.. تسلم المظروف أحكم أزرار الجاكت.. دق الباب المقابل بحنان وفتح وأنا خلفه وسلم المظروف لـ«عبدالناصر» الذى تأملنى للحظة. وانسحب الرجل ذو الأذنين، قال وكأنه لا يرانى الرسالة فى يد سيادة الرئيس وأغلق بابه كى أجد شخصاً صامتاً أيضاً ليصحبنى للخارج. عدت إلى بيتى القريب جداً من بيت «عبدالناصر» معتقداً أن الأمر سيحتاج بعض الوقت ولكن القرار صدر بعدها بساعتين.. استقالة خالد محيى الدين وتولى «هيكل» رئاسة مجلس إدارة «أخبار اليوم»، بالإضافة إلى رئاسة مجلس إدارة «الأهرام»، فى واحدة من نوادر الصحافة الناصرية. وكانت الساعات التى قضاها الأستاذ خالد صباح اليوم التالى مؤلمة ومريرة فالبكاء يعلو بحرارة من البعض وقد ودعه كثيرون بحرارة غير مفتعلة. وكان إصرار الأستاذ خالد أن يغادر المؤسسة قبل أن يحضر الأستاذ هيكل.. وكان القرار كما قلت أن أستقبله أنا. وبدأت ألاحظ بوادر الشماتة والنفاق وتعالى أحياناً تعبير «الهنود الحمر»، ورأيت لأول مرة فى حياتى تضاريس من الأخلاقيات بعضها مفعم بالاحترام والآخر مفعم بالشماتة وتملق القادم. وحتى المسكين الكبير السن، الذى كان محرراً فى القسم القضائى، وكان مسكيناً حقاً واعتاد أن يدق بابى ليطلب طلبات متواضعة جداً وأحلها له فوراً وكثيراً ما كان يحضر ابنته معه إلى المؤسسة ربما لأنه لا أحد يرعاها فى المنزل وكنت أشفق عليها وأشترى لها أكواماً من الشوكولاتة.. دخلت صالة التحرير لأجده واقفاً على كرسى وهو يخطب بصوت مرتفع (ربما لينفى عن نفسه «تهمة» نفاقنا السابق) يهاجمنا بحماس عالى الصوت ويتهمنا بأننا عملاء الشيطان والمحررون يتابعونه.. البعض شامتاً فيه والبعض شامتاً فينا.. وعم فهمى عبداللطيف، مايسترو الديسك المركزى، الذى تقلبت عليه عهود وهو مستمر فى قيادة صالة التحرير كربان ماهر لمحنى أقف مستنداً على باب الصالة مبتسما فى دهشة فصاح فى الرجل: «وطى صوتك يا منافق»، ثم: «وطى نفاقك يا حمار»، وانتبه الواقفون فلفتوا نظره، وعندما رآنى انهار ويا للدهشة باكياً وقال: «أعمل إيه الحياة مريرة وعايزة كده». ولم أعره اهتماماً ومشيت. وقبل أن أمضى قدماً فى الكتابة أود أن أسجل أن زملاءنا فى المؤسسة، أى مجموعة «الهنود الحمر»، كانوا على قدر عالٍ من الاحترام والتماسك ولم يخضعوا لأى استفزاز ولا تبدت منهم علامات ضعف.. وأود أن أسجل أيضاً أننى تحدثت عن بعض العاملين فى «أخبار اليوم» بملاحظات قد تبدو قاسية، لكننى أريد أن أقول إن الكثيرين جداً منهم سواء فى الإدارة أو فى التحرير كانوا على قدر كبير من الكفاءة والاحترام لأنفسهم وللغير وهم والمؤسسة ككل تبقى راسخة وحتى الآن فى قلبى ووجدانى كجزء عزيز لا أنساه وكنت ولم أزل ممتناً بالأساس لأساتذتى الصحفيين الذين تعلمت على أيديهم الصحافة الحقيقية ولزملائى العمال الذين وقفوا معنا كعيون ساهرة ضد محاولات تشويه صورة رجل أحبوه كثير جداً.. خالد محيى الدين.
وفى اليوم التالى أتى الأستاذ هيكل، عبر الممر متباهياً والسيجار الشهير بين أصابعه، صافحنى ومنحنى ابتسامة مترفعة وأحسست به وهو يتأملنى بدهشة وكأنه يتساءل من هذا الذى تحدثوا عنه كثيراً.. وربما سأل أيضاً كم يساوى هذا الشاب؟ وبكم يمكن أن أشتريه؟ اصطحبته إلى المكتب. فى مكان الأستاذ خالد جلس.. وساعتها أحسست بحجم الألم الذى يغمر كل ذرة فى كيانى.. وأمامه جلست. طلب أن أختار له سكرتيرة واشترط ألا تكون صغيرة ولا جميلة.. وابتسم قائلاً: «بس مش وحشة قوى».. وفجأة سألنى: مرتبك كام؟ قلت: خمسون جنيهاً (كان مرتبى قد زاد)، أبدى اشمئزازاً من ضآلة المرتب، وقال بلهجة لم أفهم إذا كانت شماتة أو إغراء: «واضح إن خالد مابيعرفش يقدر مساعديه». ولم أعلق، ثم سألنى: خالد ساب المقال؟ فقلت نعم، فين؟ فى المطبعة - راجعته؟ لم أتعود أن أراجع ما يكتبه الأستاذ خالد. انت اللى بتكتب المقال؟ لا - مين بيكتبه؟ هو وبيبعته المطبعة بخطه. وأصبح واضحاً أن الإجابات لم تعجبه. فقال: اتفضل - سألت: على فين؟ وأجاب: فى نفس أوضتك. وبهت، وبعدها بدقائق دق التليفون، وكان هو وبلهجة آمرة انزل المطبعة اختصر مقال خالد. كنت متوتراً وربما أكثر من اللازم، فقلت: الأستاذ خالد بيكتب مقالة بالمساحة المطلوبة بالضبط. فقال: «معلش فيه إعلانات زيادة انزل اختصره». ولمع فى ذهنى خاطر خبيث هو يريد أن يقول إن مدير مكتبه ما إن تخلص منه حتى اختصر بنفسه مقالاته.. هذا الخاطر الخبيث جعلنى جافاً ومتوتراً. ومرة أخرى دعانى الأستاذ هيكل.. لعله الخاطر الخبيث ولعله رغبة فى أن يعرف من أنا وما مدى علاقتى بالأستاذ خالد.
تلقيت رسالة من «هيكل»: تقرر نقلكم لجهة أخرى ونرجو عدم الحضور للمؤسسة
وقال بهدوء: «أليس الأفضل أن تختصره بنفسك بدلاً من أن يختصره غيرك؟ فقلت ببرود مثلج: الأفضل ألا يختصر أصلاً. فقال: سأضطر إلى تكليف شخص آخر وأنت المسئول. فأجبت: بالنسبة لى الأفضل ألا يختصر أصلاً. وفى غرفتى التى لم تعد مريحة بالنسبة لى تأملت الحوار.. ونحن كنا فى أول الأسبوع والسبت هو موعد النشر والمقال لم يجمع بعد بحيث يعرف الأستاذ هيكل هل ثمة مساحة كافية أم لا.. وقلت لنفسى الرجل يختبرك. ويختبر مدى استعدادك للمشاركة فى شىء ضد الأستاذ خالد. وفى السبت التالى لم ينشر المقال أصلاً.
كل هذا وأنا لم أزل فى ذات الغرفة الأنيقة، التى أصبحت بالنسبة لى قريبة من غرفة التأديب الانفرادى فى السجن. فلا أحد يتجاسر بالحضور إلى.. وأنا لا أرحب بأحد حتى لا ترتفع همسة تلتقطها أذن تترصد. البريد يدخل من الباب الآخر والداخلون والخارجون يستخدمون الباب الآخر.. وشعرت بارتياح حقيقى وحمدت الله أننى سقطت فى الامتحان. وبدأت أستعد، ففى أى لحظة سأطرد من هذه الغرفة، وأخذت أستخدم الوقت الخالى فى المذاكرة.
وفى اليوم التالى دخل محمد سيد أحمد قائلاً: «فيه موعد مع الأستاذ هيكل. وأخذ يقطع الغرفة ذهاباً وعودة»، سألت: انت ليه قلق؟ قال أنا أفكر بعمق لأن هذه لحظات مصيرية، أما أنا فكنت أستعجل فى خاطرى هذه اللحظة المصيرية لأتخلص من عبء المواجهات مع الأستاذ هيكل.
لست أدرى لماذا طلب «عبدالناصر» أن يجتمع بمحررى الكلية خلال افتتاحه لـ«الأهرام».. وبعد النكسة بدأ «ناصر» محاورات استثنى فيها خالد محيى الدين.. وعادل سيف النصر طلب التحدث فى لقاء مع الرئيس وحاول أن «يتبدى» صعيدياً.. و«عبدالناصر» شخط فيه وقال له اتكلم عدل انت ساكن فى الزمالك
ولست أدرى لماذا قرر الأستاذ هيكل أن يلتقينا معاً. ربما لكى يرينى كيف سيتعامل مع المستعدين للتفاهم. جلس «هيكل» جلسة تكتسى بالترفع لشخص يتحكم فى مصائر البشر.. وجه كلامه لمحمد.. إيه يا محمد ناوى على إيه؟ وكان «محمد» قد استعد لما سماها اللحظة المصيرية، فبدأ يتحدث عن مشروع لبنك معلومات تتجمع فيه بيانات وأرقام ومعلومات وخرائط فى جريدة الأهرام لتكون تحت يدى الباحثين هناك، كان «هيكل» يتصاعد منه دخان السيجار ويخيل إلىّ أنه حتى هذا الدخان يستعلى إلى أعلى علينا. ولم يجب «هيكل» على اقتراح محمد سيد أحمد واكتفى بإيماءة.. اكتفى بها، وفجأة باغتنى الأستاذ هيكل: وانت ناوى على إيه؟ فقلت أنا أفضل أرجع التحرير، فقال يعنى مش عايز تشتغل معايا، وبأدب مفتعل بدأت أقول إن علاقتى بالأستاذ خالد علاقة خاصة جداً وإننى فى واقع الأمر لا أصلح ولا أحب أن أكون سكرتيراً ولا مدير مكتب لأحد.. فهز رأسه. ولم يقل شيئاً.
وفى صباح اليوم التالى وفيما انتظر الأسانسير لحق بى معاون المبنى. كان مسكيناً ومرتبكاً وربما حزيناً، وقال فى تردد: معلش سيادتك مكتبك فى الرابع. وفى الرابع كانت عدة غرف خشبية متهالكة ومتواضعة جداً فوق سطح المبنى الملحق ومكتب صاج إيديال وكرسى متهالك التقطوه من مخزن المخلفات.. ولست أكذب، إذ أؤكد أننى لم أشعر بأى حزن، فقط دهشت من هذا الأسلوب وهذه الأخلاقيات.. وفى الغرف الأخرى تجمع الرفاق (الهنود الحمر) فى انتظار ما يقرره الأستاذ هيكل.
وفى المطار ذهبت لأنتظر الأستاذ خالد عائداً من لندن.. ووجدت هناك عبدالمجيد نعمان - أسعد حليم - الأمير العطار، واعتبر البعض هذا الاستقبال فى المطار نوعاً من التحدى لهيكل، لكن الأمور كانت قد تجاوزت هذه المسائل الصغيرة.
وأتى اليوم الموعود سريعاً جداً وفيما كنت أعبر باب المؤسسة فاجأنى رجل الاستعلامات، الذى كان ينتفض عندما يرانى ليحيى ويستدعى الأسانسير فوراً، فاجأنى بأن صاح يا أستاذ.. عبدالعزيز بك عبدالعليم عايزك، وذهبت إلى غرفة عبدالعزيز بك.. وتبدى أن الرجل حزين أو هكذا تصورت وأقسم ثلاثة بالله العظيم أنه زعلان، وأنه لن ينسى أننى تعاملت مع الجميع بأدب واحترام، وأكد أنه عبدالمأمور (وكنت أعرف ذلك) وأنه أراد أن يسلم الخطاب بنفسه احتراماً، أما الآخرون فسوف يتسلمون خطاباتهم من شئون العاملين، فتحت المظروف الذى كان مفتوحاً وأسرعت عيناى وسلمت على الرجل الذى لم يفكر ربما خوفاً من ملاحظات الآخرين أن يطلب منى الجلوس ولو مجاملة.. خرجت من المؤسسة وتوقفت فى الطريق لأتمعن النص «الأستاذ رفعت السعيد- حيث تقرر نقلكم للعمل بجهة أخرى نرجوكم عدم الحضور للمؤسسة. محمد حسنين هيكل» (الجميع تلقى ذات النص ما عدا البعض الذى رتب أموره مع الأستاذ هيكل أو مع لطفى الخولى الذى كان فاعلاً أصلياً فى ذلك كله، كما اتضح فيما بعد، وبعضهم الآخر طُرد ثم وجد سبيلاً للعودة مثل عادل حسين الذى ألح موسى صبرى على إبقائه إرضاء لأخيه أحمد حسين، وكذلك الأمير العطار. أما أنا فلم أحاول ولم أكن أريد ولا أستطيع، تمشيت إلى ميدان سليمان باشا.. جلست فى جروبى وطلبت كابتشينو، أحاول أن أستعيد مذاق مشاعرى آنذاك، لم أكن غاضباً فقد شبعت مما كان من سوء معاملة.. ولكننى كنت مضطرباً حول «ماذا بعد؟» كانت ليلى فى المستشفى تستعد لاستقبال ابننا خالد.. ماذا بعد؟ والمجهول لم يزل مجهولاً.. ولكن طيف اطمئنان ناوشنى فعلى الأقل هناك بيت المنصورة والأب والأم سيرحبان بنا.
رشفة واثنتان من الكابتشينو وبدأ رحيق من الارتياح.. سئمت هذه المماحكات والألاعيب وآن لى أن أبدأ من جديد وأن أنهى دراستى، وفى واقعة نادرة وليست متوقعة دخل الأستاذ خالد محيى الدين ليشترى شيئاً من جروبى، كنت أسأل نفسى كيف سأبلغه الخبر، فأتى هو بنفسه رآنى وسأل بتعمل إيه هنا؟ باشرب كابتشينو، قلتها ببساطة لكى لا أشعره بأى هموم تتعلق بى، فقد يشعر أننى ضحية لصراعه مع هيكل.. ولكى لا أفتح موضوعات لا أعرف كيف أفتحها أعطيته الخطاب.. شعرت بحالة من الحزن تخيم على وجه الأستاذ خالد، الذى اعتاد أن يكون مبتسماً ومشرقاً.. وقال كلمات لن أنساها طوال حياتى «لا تهتم ولا تقلق فلو اقتضى الأمر سأقتسم معك معاشى»، حاولت أن أهون عليه وقلت مفيش مشكلة فى الفلوس، فالوالد يمكنه أن يرسل ما أحتاج إليه.. أنا فقط أفكر كيف أبدأ من جديد.. لم يتركنى، صمم أن يأخذنى معه إلى بيته بعد أن اشترى ما أراد، وفى غرفة مكتبه أدار رقماً من الذاكرة، ومن الحديث عرفت أن عبدالناصر على الطرف الآخر، وأن كلمات عبدالناصر غير مرضية وباردة وربما أكثر.. لم ينقل لى الأستاذ خالد ما قاله الرئيس كله.. فقط نقل لى عبارة صعبة هى «هو سى رفعت بتاعك نزل من بطن أمه صحفى، كلم سامى يشوف له شغلانة تانية» وأسرع الأستاذ خالد ليتصل بسامى شرف ورد سامى على الفور: يختار واحدة من تلات شغلانات.. يا ملحق إعلامى بأى سفارة، يا صحفى فى أ. ش. أ. (وكالة أنباء الشرق الأوسط) أو يعمل فى المؤسسة المصرية للكتاب، وقلت يستحيل يعطونى وظيفة ملحق إعلامى، واخترت وكالة أنباء الشرق الأوسط، وبعد أسبوع جاء خطاب تعيينى فى مؤسسة الكتاب، وضحك الأستاذ خالد قائلاً: «كانوا عايزين يعرفوا انت عايز إيه علشان يعطوك العكس»، وبعد فترة صمت.. قال بكرة الصبح نروح مع بعض، واعترضت بشدة لكنه قال إن المدير العام عبدالواحد الوكيل، صديقه وضابط سابق فى الجيش، وذهبت معه إلى مكتب عبدالواحد الوكيل لنجد سكرتيرة متعجرفة، وهى لم تسمع اسم خالد محيى الدين من قبل، قال لها ممكن أقابل عبدالواحد بك، سألته بترفع فيه ميعاد؟ فأجاب لا، هو يعرفك؟ فقال أيوة، فدخلت متأففة إلى الرجل الذى أتى متعجلاً، وأدى للأستاذ خالد التحية العسكرية، واتفضل يا أفندم، وتعبيراً عن صداقة حميمة أنهى إجراءات تعيينى فى لحظات، مستنداً بالطبع إلى قرار آت من الرئاسة، وبعدها استقبلتنى رئيسة المؤسسة الدكتورة الرائعة سهير القلماوى.. كانت حانية ورقيقة، وسألت بهدوء عن سر التعيين المقبل من الرئاسة وعن سبب مصاحبة الأستاذ خالد لى.. ألمحت فى تحفظ شديد إلى ما كان، وتفهمت الموضوع بذكاء وسألت ماذا يريحك؟ قلت أنا أذاكر لأكمل دراستى.. وقلت أنا أحاول أن أكتب وأشتغل بجدية فى كتاب عنوانه «الأساس الاجتماعى للثورة العرابية» قالت المهم إنك تذاكر وتكتب وسوف أعينك فى وظيفة باحث، ولن يطلب منك الحضور إلا لتقبض مرتبك بشرط أن توعدنى باستكمال دراستك ووعدتها، وبعدها اتفقت مع الأستاذ خالد على مواعيد نلتقى فيها أمام بيته لنذهب معاً إلى نادى الجزيرة ونقرأ معاً فى كتب يختارها هو.
لكن الأمور لم تمض بسهولة، فقد سافر هيكل مباشرة قبل تسليمنا خطابات الفصل إلى الهند.. وفى هذه الأثناء كان موعد الاجتماع الدورى لمجموعة التنظيم الطليعى بمؤسسة الأخبار، وهى تابعة لفرع التنظيم الذى كان يرأسه الأستاذ خالد.. وكانت تضم (الأمير العطار - حامد زيدان - إسماعيل يونس- جمال بدوى - سعيد حبيب - وأنا) وأشهر الجميع غضبهم من عملية الفصل، أنا كنت محرجاً ولم أشارك فى الحوار نهائياً، واقترح حامد زيدان أن نرسل برقية احتجاج إلى عبدالناصر، وتمت صياغة برقية عاصفة، وصمم حامد زيدان أن نذهب بها معاً وأن نرسلها معاً من مكتب التلغراف، تمشينا من الدقى، حيث بيت جمال بدوى، إلى الزمالك ومن مكتب التلغراف أُرسلت البرقية بمعرفتنا جميعاً، وفيما نغادر همس حامد لو لم نرسلها مع بعضنا لما أرسلت أصلاً، وازداد غضب هيكل فور عودته، فلا المؤسسة اعتادت على ذلك ولا النظام اعتاد على أن يراسله أعضاء التنظيم الطليعى بالتلغراف.. وطبعاً علق الاتهام فى عنقى.
وتمضى الأمور لتتعقد أكثر فأكثر، وظهر يوم جمعة زارنى الأستاذ خالد فى بيتى دون موعد.. كان وجهه غاضباً وصارماً وما إن جلس وفيما أطلب من ليلى شاياً قال بلاش شاى، ثم سأل ماذا حدث بينك وبين هيكل عندما تقابلتما فى مكتبه؟ وكنت قد قررت محرجاً من أن أتظاهر بموقف متعاطف معه، من أن أحكى له ما كان مع الأستاذ هيكل، حتى لا يتصور أننى ضحية لموقفى معه، وما دام قد سأل بهذه الحدة فقد حكيت له بالتفصيل وبدقة، فقال بالإنجليزية تذكر جيداً، وقلت: أنا متذكر جيداً، فأعادها مرة ثانية وثالثة وأن أكرر أنا متذكر جيداً، ومحمد سيد أحمد كان موجوداً واسأله، وهنا قال الأستاذ خالد «هيكل قال لعبدالناصر إنك توسلت إليه كى تعمل معه لكنه رفض كى لا يشعر خالد بالحرج من تخلى أقرب الناس إليه عنه»، واقترحت أن يشرب شاياً.. فقبل وقد انفرجت أساريره، ومن التليفون بالخارج كلمت محمد سيد أحمد وقلت الأستاذ خالد عندى وعايزك ضرورى، وفيما تباطأت ليلى فى إعداد الشاى وبعض البسكويت، وتدخلت لتجلس قليلاً مرحبة بالأستاذ خالد، أما أنا فكنت أتظاهر بالهدوء لكننى كنت أكتم غضباً شديداً وخوفاً شديداً جداً من أن يغير محمد ما سمعه أثناء المقابلة.. ومرة أخرى حلق فى خوفى ركام من سحاب يقول «الأفيال تتصارع والعشب يتكسر» وقلت لنفسى إلى متى سأظل أتكسر محبة فى هذا الرجل الذى يستحق أن أحبه فعلاً.. وأخيراً وصل محمد سيد أحمد.. وانسحبت ليلى لتترك لنا استكمال القصة قلت لمحمد «من فضلك احكى ما حدث خلال مقابلتنا معاً للأستاذ هيكل» حكى محمد بأمانة ودقة شديدة وبتفاصيل تجاوزتها أنا حتى لا أتبدى أننى أدعى بطولة.. وعاد اللون الوردى البشوش إلى وجه الأستاذ خالد.. الذى سأل محمد: مستعد تشهد بكده؟ فقال طبعاً، فحكى له الأستاذ خالد ما قاله هيكل.. وصمم محمد سيد أحمد على روايته لما حدث. وغادر محمد.. وحاول الأستاذ خالد أن يفسر موقفه الذى أتى به.. وجدت نفسى واقفاً وأنا أقول من فضلك يا أستاذ خالد نقفل الموضوع، لكن أنا عايز أقول لك كلمة واحدة «انت لم تعرفنى بعد» (بعدها بفترة طويلة قال الأستاذ خالد: كانت كلمتك هذه أشد قسوة من أى كلام)، وبعد فترة صمت التقط الأستاذ خالد التليفون وطلب عبدالناصر وحكى له حكايتى وحكاية محمد سيد أحمد.. وأبدى عبدالناصر أنه غير مرتاح لهذه الاحتكاكات، وقال إنه مش فاضى لها، وإنه سيطلب من السادات أن يحقق فى الأمر، وفيما يغادر الأستاذ خالد أتت ليلى لتودعه، فقال لها مبتسماً: رفعت زعلان منى خليه يصالحنى، فقالت بعفوية: إحنا كلنا بنحبك ومحدش ممكن يزعل منك.
وبعد نحو ساعة من مغادرة الأستاذ خالد.. عاد محمد سيد أحمد، وكان مضطرباً جداً.. وصريحاً جداً (وكان كذلك دوماً) فقال إنه ذهب عقب مغادرتنا إلى لطفى الخولى الذى قال له لا تشهد، لأن ذلك سيدمر مستقبلك الصحفى فى «الأهرام» وطلب منى أن أسامحه، وأن أبلغ الأستاذ خالد اعتذاره عن عدم الشهادة، وكانت إجابتى أن الشىء الأهم عندى هو شهادته أمام الأستاذ خالد.. ولست بحاجة إلى أى شهادة أخرى، ولم يكن هناك تحقيق.. وفيما يبدو أن الرئيس كان يعرف حقيقة حوارى مع هيكل (ألم أقل إن للجدران آذاناً تسمع الهمسات).
وأستأذن القارئ فى قفزة واسعة تنقلنا إلى فترة النكسة، وكانت هناك دعوة إلى المجلس المصرى للسلام لإرسال وفد إلى مؤتمر التضامن مع شعب فيتنام فى استكهولم، وكالعادة كانت الوفود تتخذ من موسكو محطة.. توفيراً للعملة الصعبة.. فالسفر إلى موسكو بطائرات الإيروفلوت ثم التجمع فى موسكو ثم بطائرة تشارتر إيروفلوت أيضاً إلى مكان المؤتمر.. وكان الوفد مكوناً من عديد من قادة حركة السلام، واختارنى الأستاذ خالد معهم، ربما مجاملة وربما لأتدرب، وسافرنا إلى موسكو وفوراً إلى استكهولم وفى الوفد أحمد الخواجة (وكان نقيباً للمحامين - وسعيد خيال - وصبرى القاضى، والدكتور عباس، وهو طبيب كان رغم كبر سنه وشعره الأشيب أميناً لمنظمة الشباب فى الجيزة) وأنا وعدد آخر لا أذكر أسماءهم، وقبل أن أغادر صاحبتنى نصائح الأستاذ خالد وتحذيراته.. وبعد المؤتمر غادرنا أحمد الخواجة إلى القاهرة على نفقته، وسعيد خيال إلى براغ، حيث صديقه الحميم مجدى حسنين سفيراً، وعدنا نحن إلى موسكو حيث انطلق الآخرون فى حملة شراء محموم مستفيدين من فارق سعر العملة، فأحدهم اشترى أكواماً من الكريستال وكان رخيصاً جداً فى محلات «البيريوزكا» وماكينة خياطة، وقال لقيت ثمنها بما يساوى 170 قرش مقدرتش أسيبها.. وليلة السفر استضافنا د. مراد غالب سفيرنا الممتاز فى موسكو فى منزله.. وامتدت الثرثرة كالمعتاد لتتراكم من موضوع لآخر وفجأة سأل الدكتور عباس ما يتبدى أنه سؤال برىء (قال لى الأستاذ خالد أخطر الأسئلة هو ما يحاول استدراجك ببراءته) لماذا الهزيمة؟ وقال: أنا أعتقد أن السبب هو الجيش الذى جرى تدليل ضباطه وافتقاده للانضباط والعمل الجاد، لكن صبرى القاضى الذى كان يستشعر (فيما أعتقد) أن رياح المشير عامر تفرد قلوعها لتدفعها الريح للأمام.. انبرى للدفاع عن المشير وتمادى ربما ليصل صوته للمشير، قائلاً: المسئول هو المسئول الكبير اللى بيدير البلد ويتخذ قرارات سياسية خاطئة والجيش ينفذ تعليمات ولا يقرر سياسات.. وهنا تمادى د. عباس ربما ليشعل النقاش وتحدث الآخرون فى ذات الاتجاه واتجهت الأنظار إلى هذا الصامت وسألونى وأنت ما رأيك؟ نطقت بعد أن تجاهلت نصائح الأستاذ خالد، وبدأت أنتقد المشير وأسلوب قيادته للجيش، ووجود شلة فلان وشلة فلان ودفعة فلان، وكان معلوماً أن شمس بدران قد جمع ضباط دفعته ورشقهم فى كثير من المهام المهمة، وقلت: الرئيس يتخذ قراره السياسى بناء على معلومات خاطئة قدمها المشير عن قدرات الجيش واستعداده، خاصة أنه أعطى المشير كل ما طلب من أسلحة ومعدات ودعم وامتيازات.. ثم لم يحاربوا،
إلى هنا وأحسست أن يد الأستاذ خالد تخنقنى كى أكتفى، وأحسست أن السفير يتململ، فوقفت وقلت كفاية كده ونقوم علشان الناس مسافرة بكرة، وتنهد السفير فى ارتياح، وبعد ظهر اليوم التالى سجل الوفد أو بالدقة المتبقون من الوفد فضيحة مدوية، عند اصطفت حقائبهم وصناديقهم وكراتينهم لتملأ مدخل فندق سفياتيسكايا الأنيق جداً، ولسوء الحظ كان أربعة مسئولين كبار قد أتوا ليودعوا الوفد المصرى، الذى كما قال لى أحدهم «يعود إلى أرض المعركة» ودوت الفضيحة عندما لم تتسع السيارات والتاكسيات التى اصطادوها من الطريق، مستخدمين نفوذ بطاقاتهم الحزبية ومندوب السفارة يذوب خجلاً وأنا أتوارى خلفه.. وأخيراً سار رتل سيارات حاملاً حمولة ضخمة، وأحسست بدهشة وأسى كبار المسئولين الذين سلموا علىَّ بأطراف أصابعهم، وفيما يودعنى ممثل السفارة سألنى: حضرتك معاك وزن كتير؟.. فقلت حضرتى معى شنطة صغيرة فقط، هم سافروا.. وبعدها بساعات غادرت أنا إلى كوبا، وكان مندوب السفارة مندهشاً: حضرتك لم تشتر شيئاً؟ قلت سأحضر فى زيارة خاصة للشراء، وعندما عدت كان على سلم الطائرة مرافق من لجنة السلام السوفيتية، وقال فور رؤيتى: سفيركم يريدك أن تتصل به.
كانت الساعة السادسة صباحاً، فاسترخيت فى السيارة لأرتاح من رحلة صعبة، وفى الفندق كانت موظفة الاستعلامات تلقى عليه محاضرة طويلة لخصها هو فى عبارة سفيركم يريدك أن تتصل به فوراً، وقلت لنفسى لست مجنوناً حتى أتصل بالسفير فى السادسة صباحاً، لكنه وبعد فترة كان على التليفون، وقال: د. مراد عايزك قلت إمتى؟ قال فوراً والسيارة فى طريقها إليك.. وتنازلت عن الإفطار الذى كنت بحاجة إليه.. لأجد د. مراد متوتراً فى هدوء دبلوماسى مصطنع، سألنى عن كوبا وعن رحلتى وأنا أجيب بإيجاز قلق.. ماذا يريد هذا الرجل؟ وكالعادة ساورتنى هواجس سخيفة هل مات أحد؟.. أم هل؟ وأخيراً سألنى باحتراف متمكن: وأخبار السفير المصرى هناك إيه؟ فقلت: أنا لم أكد أعرفه قابلته خمس دقائق ولم أتبادل معه أى حديث.. فالكوبيون يقاطعونه لأنه يتاجر بالعملة، ويهرب أموال الهاربين من كوبا إليهم فى أمريكا عبر الحقائب الدبلوماسية، وكانت الحكومة الكوبية تسمح لبعضهم بالهجرة بشرط التنازل عن ممتلكاتهم.. وسألنى د. مراد: متى قابلته أول مرة؟.. ودقق فى هذا السؤال تدقيقاً شديداً ومملاً.. فاستدعيت ذاكرتى.. وقلت: المؤتمر تأجل أربعة أيام وهمس راؤول كاسترو يومها فى أذنى كنا فى انتظار الرفيق جيفارا لكنه يبدو أنه لن يستطيع الحضور، وسنبدأ نحن غداً، ويوم البدء أى فى اليوم الخامس حضر إلى باب الفندق مندوب من السفارة المصرية فى الصباح ومُنع من الدخول، فالمؤتمر لا يدخله إلا من يحمل بطاقة دعوة والسفارة المصرية ليست مدعوة.. وطلب مقابلتى فخرجت له واصطحبنى إلى السفارة وكان السفير يريد أن يكتب تقريراً عن المؤتمر.. ولكنه حتى لا يعرف الأوضاع العامة ليسار أمريكا اللاتينية فكلف سكرتيراً فى السفارة لأملى عليه، وعاد ليسأل: يعنى أول مرة شفت فيها السفير إمتى؟ قلت بملل: خامس يوم.. فقال مرحاً: تبقى براءة، وحكى لى القصة، ففى ثانى يوم بعد عودة ما تبقى من الوفد المصرى إلى القاهرة اتصل بى الرئيس عبدالناصر.. مش عيب يا مراد أتشتم فى بيتك «وماتكتبشى لى باللى حصل» فقلت يا ريس أنا لاحظت إن الناس متوترة ويمكن كانوا مشددوين شوية، فقال كلهم يشتمونى وأنت لم تدافع عنى ولم يدافع عنى إلا رفعت السعيد، ومضى د. مراد، والغريب أن كلهم هاجموا الرئيس ودافعوا عن عامر ولكن كلهم اتهموا كلهم أنهم شتموا الرئيس.. وانت طلعت براءة. وأنا غلطان.
ومضى قائلاً: والرئيس سألنى كمان عن حكاية العفش، يعنى كلهم كانوا شايلين كميات عفش مهولة وكلهم قالوا على كلهم إنهم كانوا شايلين شنط وكراتين وتلاجات وماكينات خياطة وانت مندوب السفارة.. طلعك براءة.
وتبقى قصة ناصرية أخرى وأخيرة.
لست أدرى لماذا طلب عبدالناصر خلال افتتاحه لمبنى «الأهرام» الجديد أن يجتمع بمحررى الطليعة. وبالفعل دعينا فى صالة اجتماعات فى الدور الخامس..
فى صدر الاجتماع هيكل.. والرئيس ود. إسماعيل صبرى ولطفى الخولى.
ولسبب ما طلب الأستاذ هيكل من د. إسماعيل صبرى أن يقدمنا للرئيس، ثم قال عبدالناصر كلمة قصيرة وترك الجلسة لإسماعيل صبرى.. وكان أول المتحدثين د. إبراهيم سعد الدين الذى كان آنذاك رئيساً للجهاز المركزى للمحاسبات، وتحدث الدكتور إبراهيم عن ملاحظات بسيطة حول الوضع الاقتصادى، وقال إن الضغط على بعض مؤسسات القطاع العام كى تحقق أرباحاً يدفعها إلى الخطأ.. مثلاً مصنع الزجاج وجد أن الأكثر ربحية صناعة زجاجات الكوكاكولا فترك صناعة زجاجات القطرة التى لا تكسب.. وهنا قاطعه عبدالناصر.. «الكلام ده انت صرحت به فى حوار مع مجلة المصور. وانت كرئيس للجهاز المركزى للمحاسبات ليس مسموحاً لك أن تدلى بأحاديث صحفية، علشان كده أنا أصدرت النهارده قراراً بفصلك»، وسقط دش بارد علينا جميعاً.. ثم طلب عادل سيف النصر الكلمة.. ولسوء الحظ أنه حاول أن يتبدى صعيدياً فبدأ يتكلم بلهجة صعيدية وكانت لهجة متقنة، لكن عبدالناصر شخط فيه قائلاً «اتكلم عدل انت ساكن فى الزمالك بتتكلم هناك صعيدى».. وارتبك الرجل ولم يكمل، وخيم صمت مخيب للآمال على الجميع لكن عبدالناصر نظر إلىَّ قائلاً «انت كنت باعت شكوى لشعراوى لأن البوليس بيراقب اجتماعاتكم فى التنظيم مش كده؟» وأجبت.. ده صحيح يا أفندم وما أخشاه أن تفهم هذه الاجتماعات فهماً خاطئاً ويتصور البعض أنها ضد النظام» فقال ما هو لازم تتحمل عبء الشكوك التى تراكمت فى الماضى، وأنا عارف إن دى اجتماعات مشروعة (كانت اجتماعات مجموعة التنظيم الطليعى) وانت لازم تعمل زى سان بيتر وتحمل صليبك على ظهرك وتحتمل»، وهززت رأسى ولم أرد، وبعدها صمت الجميع فعبدالناصر أشبعنا بما لم نتوقع.. وحتى الآن لم أعرف لماذا كانت هذه الدعوة وهذا الهجوم؟.. لكنها كانت.
وأخيراً وفى أعقاب النكسة بدأ عبدالناصر فى محاورات استشار فيها خالد محيى الدين، ولأن بيتى كان قريباً جداً من بيت عبدالناصر، فقد كان الأستاذ خالد يأتى إلى بيتى ليضمن الوصول فى الموعد، وطبعاً يتحدث ماذا سيقول لعبدالناصر، وتحدثت مع الأستاذ خالد عن أهمية انتهاج سياسة ديمقراطية فعلاً وإتاحة مساحة لبعض ولو قليل من حرية الرأى، وكان رد عبدالناصر، وفق رواية الأستاذ خالد، كلامك صح لكن الديمقراطية دى ممكن تعطل الشغل وبرضه أحسن حاجة أن تأتيك فكرة وانت فى السرير فتقوم وتنفذها.
وتكررت المقابلات وتكرر حضور الأستاذ خالد، وتكرر بتنويعات مختلفة الحديث عن الديمقراطية حتى زهق عبدالناصر، وقال «هو الواد بتاعك معندوش غير حكاية الديمقراطية دى» وتوقفت المقابلات وبعدها صدر بيان 30 مارس.