القانون والثقافة
مقالات مختارة | د. عماد جاد
السبت ١٣ مايو ٢٠١٧
تعانى المجتمعات الإنسانية على مختلف درجات تطورها، وبصرف النظر عن القيم والمعتقدات السائدة فيها، من درجة من درجات التمييز بحق مواطنين، لاعتبارات تتعلق بعناصر انقسام أولى، يولد الإنسان بها، مثل العرق، الدين، الطائفة واللغة، أو عوامل مكتسبة من الحياة، مثل الوظيفة والطبقة الاجتماعية. نجحت المجتمعات تدريجياً فى مكافحة التعصّب والتمييز عبر سن القوانين وتطبيقها على نحو صارم ومجرّد. فى القرون الوسطى وعصور الظلام تسبّبت هذه الاختلافات فى مذابح بشرية فى قلب أوروبا، مثل حرب السبعين عاماً بين الكاثوليك والبروتستانت، التى انتهت بمعاهدة صلح وستفاليا ١٦٤٨، التى أرست أساس الدولة القومية فى أوروبا. واستمر الأمر كذلك حتى الحرب العالمية الأولى والثانية، فما النازية الألمانية والفاشية الإيطالية واليابانية إلا حركات عنصرية قاتلة لغير المنتمين إليها عرقياً.
نجحت الدول الأوروبية والعالم الغربى عموماً فى وضع حزمة من القوانين المحلية لضبط سلوك البشر وتوفير الحماية القانونية للمغاير العرقى واللغوى والدينى، بل إن بعضها سار على طريق تمكين وتدعيم الفئات الضعيفة فى المجتمع، مثل المرأة والأقليات، ومنح هذه الفئات تمييزاً إيجابياً، حتى تتمكن من تحقيق الذات والحصول على تعويض عن فترات التمييز.
واجهت الدول الغربية آفة عنصرية، والأفكار التمييزية عبر سلسلة من القوانين من ناحية، والإصرار على تطبيق القانون بشكل مبدئى، ومجرد من الهوى من ناحية ثانية، فبدأت فى القضاء تدريجياً على الأفكار العنصرية والاتجاهات التمييزية، لم تكتفِ هذه الدول بإصدار قوانين، بل عملت -وبكل قوة- على تطبيق هذه القوانين بشكل مبدئى ومجرد على الجميع، واستقر مبدأ قانون فوق الجميع ويطبّق على الجميع، فنجحت هذه الدول فى مكافحة الأفكار العنصرية والتمييزية. صحيح أن هذه الأفكار تُطل برأسها من حين إلى آخر فى بعض المجتمعات الغربية، لكن الصحيح أيضاً أنها تواجه بالقانون فتتم السيطرة عليها وتوفير الحماية للمكونات البشرية التى تستهدفها هذه الحركات والجماعات.
مشكلتنا فى دول العالم الثالث، وتحديداً العالم العربى، وبشكل أكثر تحديداً بلدنا مصر، أن القانون يطبّق بشكل انتقائى، وأحياناً يُزاح القانون لمصلحة عرف صحراوى متخلف، كما قد تعمل مؤسسات الدولة على التلاعب بالقانون. خُذ على سبيل المثال الفقرة (و) من المادة (٩٨) من قانون العقوبات، التى تتعلق بازدراء الأديان، هذه الفقرة وُضعت فى عهد الرئيس المؤمن بهدف وقف الإساءة إلى الديانة المسيحية بعد أن أصبحت ظاهرة فى عقد السبعينات، والحقيقة أنه وخلال أكثر من أربعة عقود، كانت تطبق هذه المادة على المسيحيين والمفكرين فقط، والتهمة كانت ازدراء الدين الإسلامى، وطبّقت على أطفال بنى سويف الذين قلّدوا «داعش» فى مشهد مدته خمسين ثانية، فكان الحكم عليهم بالسجن خمس سنوات. فى الوقت نفسه، واصل مشايخ السلفية التهجّم على العقيدة المسيحية ليل نهار دون محاسبة، وفى مراحل لاحقة انضم إليهم عدد من الأزهريين أمثال محمد عمارة، ثم الوكيل السابق لوزارة الأوقاف، ثم مستشار شيخ الأزهر، ومع الضجة الكبيرة التى أثيرت مؤخراً بسبب إصرار وكيل وزارة الأوقاف السابق سالم عبدالجليل، على مهاجمة مسيحية ووصفها بالعقيدة الفاسدة، والمسيحيين بالكفرة، تحركت الدولة وقرّرت تقديم الرجل للمحاكمة، وهى خطوة متقدّمة ومهمة على طريق إرساء مبدأ دستورى، وهو احترام القيم والمعتقدات، وتفعيل الفقرة (و) من المادة (٩٨) من قانون العقوبات، لكن الأهم من كل ذلك أن تتم المحاكمة بالفعل، وأن ينال الرجل جزاء ما اقترف من مخالفة للقانون، فمن خلال القانون وحده يتحقق الزجر والردع، وعبر أحكامه المتتالية تتحول مبادئ القانون إلى ثقافة، مثلما حدث فى الغرب، فالقانون أولاً، أى تطبيق القانون بشكل مجرّد وفعال على الجميع، ثم تتحول مقولات القانون إلى مفردات ثقافية، فتستقر فى وجدان المواطنين.
نقلا عن الوطن