هز الوسط.. والبكينى.. والتنوير.. وأشياء أخرى
مقالات مختارة | عاطف بشاى
الاثنين ١٥ مايو ٢٠١٧
بنبرة مسرحية زاعقة.. وبعبارات تهكمية لاذعة.. وملامح متقلصة بانفعال ممزوج باستهجان لا يخلو من رثاء لدورة الزمان الجميل الذى ولى.. واندثرت قيمه ومبادئه وحلت محله ردة حضارية مسيطرة.. نعت الأستاذة الجامعية، التى نشرت على صفحة التواصل الاجتماعى الخاصة بها مقطع فيديو.. وهى ترقص رقصاً شرقياً.. بالإضافة إلى صور أخرى تظهر فيها مفاتنها بالبكينى الصارخ.. نعت الأستاذة فى برنامج تليفزيونى حال الجامعة فى عشرينات القرن الماضى.. وترحمت على رمزيها الشامخين «د. طه حسين» و«لطفى بك السيد».. اللذين يمثلان عصراً من الليبرالية الوضاءة والديمقراطية الوهاجة بحرية التعبير.. والحرية الشخصية وينبذ التحريم والتجريم والإقصاء والتكفير.. ويرفض ثقافة الحلال والحرام.. ولا يروج لتوجهات التكفيريين الذين يناصبون المرأة العداء.. ويعتبرونها عورة ومصدراً للشهوة ومجرد وعاء يستلزم تأديب المطوعين وفرض دعائم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
أرادت الأستاذة إذاً -بسبب الهجوم الضارى عليها- أن تستجير بـ«طه حسين» و«لطفى السيد» لتفحم منطق المتشددين المتهافت وغثاء المتشنجين بنواهى الفضيلة.. الذين يرتدون أقنعة الوقار الزائفة.
والحقيقة أنى عند إثارة تلك القضية.. توجست خيفة من توقعاتى تجاه ردود أفعال المتشدقين.. و«الحنجوريين» والمتحذلقين من المثقفين أنصار الأستاذة.. وبالفعل صدق حدسى فيما يتصل بذلك الخلط المعيب بين الأخلاق المرعية.. والأصول الثابتة.. وبين حرية الرأى والتعبير وحقوق الإنسان.. أو بين السلوك المتحفظ الرجعى المتطرف والمتخلف والذكورى.
وحتى لا تختلط الأوراق وتتعالى صيحات عبث الأدعياء ويسود الالتباس وتعم أكلاشيهات «النخبويين» البراقة فينبغى علينا أن نوضح للأستاذة الحاصلة على درجة الدكتوراه فى الأدب أن الإسهامات التنويرية التى قام بها من استشهدت بهما.. العظيمان «طه حسين» و«لطفى السيد» لم تكن بينها حرية التعبير عن حركة التنوير بحركة الرقص الشرقى أو ارتداء البكينى.
إن ثورة «طه حسين» التنويرية كانت تهدف إلى مجابهة القدماء الذين أغلقوا على أنفسهم أبواب الاجتهاد فى الأدب.. كما أغلقه الفقهاء فى الفقه.. ودعا العقول أن تفحص وتراجع وتتعلم.
وحينما قدّم الظلاميون استجواباً فى مجلس النواب لوزير المعارف، يؤكدون فيه أن السموم التى أراد لها الدكتور أن ينفثها فى كتابه «فى الشعر الجاهلى» لا تزال ماثلة فى كثير من فصوله، فكيف تسمح وزارة المعارف أن يكون ذلك الرجل عميداً لكلية الآداب بالجامعة المصرية؟.. لم يهدأ بالهم إلا حينما تقررت عقوبة الفصل والطرد.. إنها عقوبة ضد العقل والتفكير والمنطق والحرية.. رغم أن «أحمد لطفى السيد» مدير الجامعة قدم استقالته احتجاجاً على هذا القرار الظالم.. ذاكراً فى خطاب الاستقالة الذى أرسله إلى رئيس الوزراء أن فصل «طه حسين» هو أمر يمس كرامة البحث العلمى.. وكرامة الجامعة.. يمس حرية التفكير وحرية الرأى.. يمس أبسط الحقوق التى يعترف بها أى مجتمع لأفراده..
أما كيفية التحاق الآنسات بالجامعة فى ذلك الوقت -الذى أود بمناسبة الحديث عن رسالة التنوير أن أذكر الأستاذة الدكتوة به- حيث اجتمع الرائدان الكبيران «طه حسين» و«لطفى السيد» واتفقا على مخالفة قوانين الجامعة والتحايل عليها والسماح للآنسات بممارسة حقهن الإنسانى فى التعليم العالى الذى كان محرماً عليهن.. على أن يبقى ذلك سراً بينهما ريثما يستطيعان فرض الأمر الواقع على إدارة الجامعة.. وقد كان.. وأذاع الدكتور «طه حسين» السر على الحضور فى حفل بهيج أقامته «هدى شعراوى» تم فيه تكريم الفتيات الحاصلات على المراكز الأولى.. وكانت الأديبة الكبيرة «سهير القلماوى» هى الأولى على دفعة الليسانس فى كلية الآداب التى يرأس قسمها الدكتور «طه حسين».. وكانت فرحة «د. سهير» بذلك طاغية بالطبع.. لكنها لم تعبر عن فرحتها بالرقص.. ولم يطلب «د. طه حسين» تحزيمها للرقص عشرة بلدى.. لم تكن فى رسالته التنويرية التى ناقش فيها مستقبل الثقافة فى مصر بند يبيح استعراض مهارة الجامعيات فى هز الوسط أو مسابقة لاستعراض مفاتنهن فى الصدور العارية التى لا تصلح إلا لأغلفة مجلات «البورنو».
وفى هذا الصدد فقد جاء مقال للأستاذ «ياسر عبدالعزيز» يحمل رأياً منطقياً يضع النقاط فوق الحروف.. فهو يوضح بادئ ذى بدء أن الحصول على «فيديوهات» وصور رقص الدكتورة والاحتفاظ بها ونشرها وبثها لا يمثل اعتداء على خصوصيتها.. ورغم أن حرمة الحياة الخاصة مصونة ويجب ألا تمس وفق الدستور والقانون والعهود الحقوقية الدولية.. فإن تلك المواد المصورة لا تقع فى نطاق خصوصية الدكتورة لأنها ببساطة نشرتها بنفسها على صفحات «السوشيال ميديا» والمتاح الوصول إليها من قبل أى شخص.
ثم إن مناقشة ما تبثه الأستاذة على «السوشيال ميديا» وليس ما فعلته فى فضائها الخاص واتخاذ إجراءات تخصها نتيجة تلك الممارسات المذاعة من جانب الجامعة التى تعمل بها، لا يمثل انتهاكاً لحقها فى التعبير عن الرأى ولا حريتها الشخصية طالما تم إثبات أن ما فعلته يتناقض بشكل واضح لا لبس فيه مع مقتضيات السلوك الوظيفى ومتطلبات السمعة المحمودة التى يجب أن يكون منصوصاً عليها بوضوح فى عقد العمل أو لوائح السلوك ومدوناته وشروط التعيين بالوظائف، يقودنا ذلك إلى طرح سؤال أراه جوهرياً.. وضرورياً فى جدلية فض الاشتباك بين المؤيدين والمعارضين لسلوك الأستاذة.. وهو: ما الهدف الذى دعا الدكتورة إلى نشر تلك المقاطع؟! هل هو التباهى بجمال جسدها الذى أبدت إعجابها به وسعادتها فى تعريته؟! وخاصة أن صور البكينى اتخذت فيها أوضاعاً استعراضية تظهر المفاتن وتبرز الكوامن وتثير دوافع التحرش.. وتعليقات السوقة.. والمدهش أن أحد الكتاب الذى يدافع عن حرية الأستاذة يكتب أننا إذ نعيش فى مجتمع مختل التوازن، حيث إن كل مفهومه عن الأخلاق القويمة والسلوك المستقيم يرتبط بالنصف الأسفل من الجسد.. والهوس بالجنس والنساء الذى يشغل حيزاً ضخماً من تفكيره مما يعبر عن خلل نفسى واختلال فى البنية الشعورية والمشاعرية.
يا أيها الكاتب العزيز.. إن المدعوة الفاضلة هى التى سعت بنفسها أن تعرض نفسها ولم يدعها أحد إلى ذلك.. أو يجبرها أحد على ذلك.. كما أنها هى التى فرضت استفزاز المحافظين وتحدت تشدد المتزمتين بل الوهابيين عامدة متعمدة.. ولا أحد يعرف سبباً واضحاً اللهم إلا استدعاء شهرة زائفة.. أو لفتاً لأنظار المراهقين وتحرشاً بهم، أو كما تدعى -فى تعليق كوميدى- أن ذلك جزء لا يتجزأ من حركة التنوير.
نقلا عن الوطن