عقل مصطفى الفقى
مقالات مختارة | مفيد فوزي
السبت ٢٠ مايو ٢٠١٧
هو الوطنى الذى يعتبر الكلمات الرنانة ليست أمراً عسيراً ولكن عائدها لن يكون يسيراً فى بلد رفيع القدر محورى التأثير فى المنطقة.
شأن كل الناجحين الموهوبين المرموقين خرج مصطفى الفقى من رحم المكائد والمصايد والمؤامرات منتصراً فى وجه حزب أعداء النجاح. وقد أخذت السلطة سنوات من حياته ولم يحترق بنارها بل زادته تواضعاً كما تواضع العشب. هو الذى زودته ثقافته الدينية بأن الأمام بن حنبل قد أجاز تفضيل «المسؤول الأكفأ على غيره حتى لو كانت له بعض الهنات، لأن الكفاءة رصيد مطلوب لحسن الأداء». هو الوطنى الذى يعتبر الكلمات الرنانة ليست أمراً عسيراً ولكن عائدها لن يكون يسيراً فى بلد رفيع القدر محورى التأثير فى المنطقة، فالنيل يعلم المصريين الصبر والثقة، والأهرامات تلقنهم الشموخ والكبرياء. هو الذى آمن أن الإنسان ابن ظروفه ونتاج البيئة الفكرية والاجتماعية التى عاش فيها. هو الذى يعترف بأن المسافة بين انفعال الشعوب ودبلوماسية الحاكام مازالت واسعة فى كثير من الأقطار العربية، حيث يقف الحاكم أمام مجموعة معقدة من الالتزامات والارتباطات. هو الذى ألح عليه خاطر الانضمام لحزب الوفد الجديد إحياءً لتقاليد أكاديمية ومواريث عائلية، ولكن إحساساً آخر كان يشده بعيداً عن الحزبية والحياة السياسية برمتها، إذ ليس هناك - عنده - ما هو أغلى من سلطان الفكر وسطوة الكلمة فى رحلة عمر لابد لها من لحظة انصراف. هو الذى يعترف بأننا فى حاجة إلى التدريب المهنى إلى جانب التعليم الجامعى، فمصر الحديثة تحتاج إلى ذوى الخبرة قبل ذوى المؤهل. هو الذى يرى أن جيل الكمبيوتر والإنترنت سوف يفتقد كثيراً من جوانب الحياة الإنسانية الثرية بالعطاء، الغنية بالحوار، وربما يكون محروماً من الفضول والدهشة اللذين يصاحبان العطش للمعرفة. هو الذى يعتبر النجاح حالة عقلية، والفشل إخفاقاً، نفسياً، والهزيمة تبدأ من العقل، والانتحار يبدأ منه أيضاً.
هو الذى يتمنى أن يكون إخلاصنا للغة العربية وحماسنا لثقافتنا القومية يقترب من إخلاص الفرنسيين للغتهم وحماسهم لثقافتهم. هو الذى يرى أن المصريين يجب أن يدركوا تزايد أهمية العامل الثقافى فى المستقبل، وهو ما يزيد من مسؤوليتهم بحكم ريادتهم الثقافية ودورهم التنويرى التاريخى، فالثقافة أعلى سلعة نملكها. هو الذى يرى فى معادلة الشعوب والحكام أنه عندما تجرى الشعوب وراء كاريزما الحاكم تصاب بالعمى، وعندما يغيب صوت الجماهير تصاب الأمة بالخرس، وعندما يستبد الحاكم تصاب الدولة بالصمم. هو الذى يقول ما أكثر المظاليم فى حوارى التاريخ وما أكثر النمور من ورق فى غاباتها وما أكثر أبطال الزيف على المسرح الإنسانى منذ بدايته!. هو الذى يعترف بأن قضية الوحدة الوطنية استحوذت على جانب كبير من اهتمامات عمره و«اخترتها مشروعاً فكرياً لأطروحتى فى الدكتوراه وقد تحول الشأن القبطى إلى محور دراسى لم أتوقف عنه يوماً لأنى مؤمن بوحدة هذا الوطن وتجانسه السكانى وتكامله البشرى». يقول عنه المفكر الراحل السيد يس: مصطفى الفقى مفكر عربى يؤمن بالقومية العربية، وأهم ما فيه منهجه النقدى، وقدرته على النقد، حتى ولو خالف الآراء الشائعة وقدرته على النقد الذاتى وهى فضيلة ليست شائعة فى العالم العربى، علماً بأن النقد الذاتى هو أحد أسباب التقدم. ويرى الناقد الكبير د. صلاح فضل أن من أهم مميزات مصطفى الفقى أنه «يحسن الحديث المرتجل بتدفق وتسعفه ذاكرته وتسعفه خواطره» ولديه المقدرة على التحدى «أتحدى أن يأتى لى أحد بموقف لى فى حياتى خارجاً عن سياق الناصرية، فهى الأصل فى حياتى ودمائى ناصرية». وقد رفض مصطفى الفقى السفر إلى إسرائيل وتمثيل مصر فى احتفالات الكنيست بالعيد 25 لاتفاقية السلام رغم إلحاح أقطاب الدولة حينذاك بضراوة، لكنه انحاز لموقفه. يرى الفقى أن العمل السياسى ليس حرفة فراغ ولا مهنة نهاية الخدمة، إنه استعداد وتدريب وخبرة. لقد عاش الفقى حياته مؤمناً بأن الفارق بين إنسان وآخر يكمن فى مزيج من العقل والقلب تحت مسمى الوجدان، وأن الإنسان ابن ظروفه.
عاش فى قلب أسرة وقفت خلفه تتصدرها زوجته الفاضلة نجوى متولى النشطة فى المجال الاجتماعى والصحى متوارية لتمنح الضوء كله لمصطفى الفقى. وقفت أسرته الصغيرة معه فى معاركه، وكم خاض ضد الأشرار من معارك. مؤمناً أنه لا توجد قاعدة ثابتة تحكم سلوك الناس، ولكن قواسم مشتركة متفائلاً بأن الإنسانية هى الابنة الشرعية للحياة بما لها وما عليها. لقد عرفته سفيراً لمصر فى النمسا وقدمنى للأمين السابق للأمم المتحدة كورت فالدهايم لأحاوره، وعرفته مديراً لمعلومات مبارك، وعرفته محاضراً ومفكراً له كاريزما المعلومة والرؤية الموضوعية المحايدة وعرفته صديقاً يفهم لهفة الصديق ويتابعه وعرفته «يجمل» الحياة ويتغاضى عن قبح البشر. ويوم كرمتنى الجامعة الأمريكية فى القاهرة، كان الفقى واحداً مهماً من عشرة هم عزوتى. هاهو مصطفى الفقى يذهب لمقعد مدير مكتبة الإسكندرية ثابت الخطوة يمشى ملكاً، هاهو المثقف الكبير يتبوأ موقعاً ثقافياً له تاريخ موغل فى الزمن، هاهو مصطفى الفقى يسعى إلى «شعبلة» المكتبة العريقة، هاهو مصطفى الفقى وجه مصرى عربى دولى تسعى له المناصب ولا يسعى إليها.
فى الشأن العام
■ أجمل ما يحلم به أى كاتب أن تكون لكلماته صدى وتأثير. أدرك أن مصر الرسمية لا تهتم بما يكتب فى الصحف إلا إذا كان فضيحة مجلجلة تجعل الرئيس يعلق عليها «مصر مش طابونة» هو تعليق رئاسى مصرى شعبى. وفيما عدا ذلك فبلدنا ميت فل وعشرة، مهما بلغ فيها حد السفالة والتنطع والرشوة والجرائم الغريبة على المجتمع. أى شىء يتعلق بوجدان أمة، فهو فى الباى باى! أى شىء يتعلق بتراثيات بالية لا ضرر منها ولا ضرار، أى شىء يتعلق بعنف التعاملات الحياتية والحض على الكراهية، ولا أى اندهاشة. المهم توفير اللحمة والخضار والحلويات بأسعار زهيدة وكأننا نفكر بالمعدة!!
المهم، طرحت رؤية أو اقتراح بمؤتمر اجتماعى يحلل ويضع حلولاً و لا يتحول إلى «مكلمة» أمام الرئيس، ذلك أنى قلق تماماً على حالة المجتمع الآخذ فى العنف أسلوب حياة، حتى بات يحتاج إلى «عين حمرة» وليس تدليلاً أو طبطبة، ولكن العقلاء يرون أن العين الحمرة توقظ غضب الجياع وقد تؤدى إلى عصيان مدنى وهى ليست مناسبة فى ظروف اقتصادية موجعة، خصوصاً أن الرئيس يراهن على «صبر» المصريين.
■ لم يرفع وزير السماعة ليناقشنى فى قضية «العنف الآخذة موجته فى الارتفاع» وربما تعصف بقلوع المركب! باختصار «مصر الرسمية» تسير كالسائرين نياماً. ولكن هناك «مصريين بجد» تجاوبوا معى تليفونياً وعلى الإيميل الشخصى وبالرسائل المكتوبة، ولديهم الحمية لعودة المجتمع إلى طبيعته السمحاء التى باتت حلماً صعب المنال. وكنت قد قررت ألا أخوض فى قضايا وجدانية عامة، وأكتب طرائف وغرائب مسلية لا تهش ولا تنش، ثم تنبهت أنى بقليل من الفكر المتواضع لن أعاقب «مصر» بصمتى، و«صمت آخرين» اكتشفوا أنه مفيش فايدة. باختصار الذين يعملون بجدية واستماتة هم «القوات المسلحة».. وعفواً! أكاد أعلن وفاة القطاع المدنى وربما كان التعميم يخطئنى!
نقلا عن المصري اليوم