الأقباط متحدون - العتبة المخطوفة بقوة السلاح
  • ٠١:١٥
  • الاثنين , ٢٢ مايو ٢٠١٧
English version

العتبة المخطوفة بقوة السلاح

مقالات مختارة | فاطمة ناعوت

١٢: ١٢ م +02:00 EET

الاثنين ٢٢ مايو ٢٠١٧

فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت

هل يجتمعُ الجمالُ والقبح فى مكان؟! نعم. بل بوسع القبحِ أن يحيطَ الجمالَ كسوارٍ غليظٍ صدئ حول مِعصمٍ غَضٍّ لغيداءَ ساحرة فى أُبَّهة الحسن. أنا شاهدتُ الجمالَ محسورًا ومأسورًا ومُختنقًا فى قلب الدمامة والحوشية!

يا عزيزى وزير الثقافة، يا عزيزى رئيس البيت الفنّىّ للمسرح، يا عزيزى رئيس حىّ العتبة والأزبكية، يا عزيزى محافظ القاهرة، يا شعبَ مصرَ المثقف المستنير، ويا شعب مصر الذى يريد أن يستنير وأن يُنشئ أجيالاً مثقفة، هذه قضية أمن قومى. لأن قلبَ مصرَ، ودماغَها، وروحَها، وقوتها الناعمة، بل أن شرفَها ذاتَه، مغروسٌ بقسوة فى كفّ الخطر.

المسرحُ ليس مكانًا للترفيه والتسلية والضحك. إنما هو «أداة» خطيرة تعلو بمجتمع، أو تهبط به. لهذا قيل إن لينين، وغيره، قد قالوا: «أعطنى رغيفَ خبزٍ ومسرحًا، أُعطك شعبًا مثقفًا». مقولة صادقة كل الصدق. فالخبزُ لعيش الجسد، والمسرح لحياة الدماغ والروح والقلب. الخبزُ يجعلنا أحياء «نعيش»، والمسرح يجعلنا «نحيا». الخبزُ دون مسرح، يضمن عَيشَنا، كما تعيش الدوابُّ والهوامُّ والقوارضُ والحيوان. إنما المسرح هو الذى يجعل منّا كائنات ممتازة تحيا وتفكّر وتبتكر وتنتج وتحبُّ وتتطوّر وتبدع. فننتقل من خانة الكائن المستهلِك الدنيا، إلى خانة الكائن المنتج العليا.

فى ميدان العتبة، الذى اشتراه إسماعيل ياسين فى أحد أفلامه فيما مضى لثرائه وجماله ونظافته، حين كانتِ القاهرةٌ من أجمل وأنظف وأشيك مدن العالم، صار اليوم مرتعًا للقبح والدمامة والبلطجة والحوشية يصكُّ المسامع بقبيح المعاجم ويقتل الروح بقبيح السلوك، ويصدم العيونَ بقبيح المشاهِد. هذه مشكلة كبرى، لكن المشكلة الأخطر أن فى قلب ذلك القبح، ثمة بقعةً من الجمال لا تجد سبيلا للتنفس هواءً نظيفًا. الأدقُّ أن فى قلب القبح ثلاثَ بقعٍ من الجمال، لا بقعة واحدة. المسرح القومى، مسرح الطليعة، مسرح العرائس.

يحدثُ أن يأتى لمصر بعض أصدقائى من أدباء العالم، فأدعوهم لمشاهدة عرض بدار الأوبرا المصرية، أو مسرحية فى مسارحنا الراقية. حين نزور دار الأوبرا المصرية، التى أسميها «دولة الأوبرا»، أسير إلى جوارهم رافعةَ الرأس محتشدةً بالفخر والعِزّة. ولكن، حين أصحبهم للقومى أو الطليعة، تهربُ منى كلماتُ التبرير وهم ينظرون إلى ما يحيط بحرم المسارح، ويمنعهم تهذّبهم من التعليق. لكن كلماتى تنحسر فى خانة: «هذا وضعٌ مؤقت، والدولة المصرية لا تقبل ما ترونه بعيونكم، فكلما نظفت المكانَ من الإشغالات القبيحة، عاد البائعون أدراجهم، لكن لابد لذلك من نهاية. أرجو أن تغمضوا عيونكم، واستعدوا لهدر الجمال والفن الرفيع الذى ستشاهدونه على خشبة المسرح بعد برهة».

هل تتصور، عزيزى القارئ، أن تصطحب أطفالك إلى مسرح العرائس لمشاهد عرض يُثقِّف طفولتهم، فيشاهدون على بوابة المسرح أحذيةً وحقائبَ وملابس داخلية، بل سنجًا ومطاوى معلّقةً على سور المسرح، ومنثورة على الأرصفة، جوارها باعةٌ ينادون على بضائعهم بكلمات قبيحة ووجوه مكفهرة؟!

قبل الثورة، حينما قدّم الدكتور أشرف زكى، رئيس للبيت الفنى للمسرح آنذاك، مشروعًا محترمًا سماه «مجمّع مسارح الدولة»، يضمُّ القومى والطليعة والعرائس، مع حديقة الأزبكية، يحدّه سورٌ عازل يفصل تلك المنابر الثقافية الرفيعة عن أجواء الشوارع المحيطة. لكن الثورة اشتعلت وأجهضت ذلك المشروع الذى لم يرَ النور حتى اليوم. وعندما تولّى الفنان فتّوح أحمد رئاسة البيت الفنّى للمسرح، حاول إحياء المشروع بالاشتراك مع المحافظة والحى، ولكن البيروقراطية والروتين القاتل، من جديد، عوّقا إتمام الفكرة. ثم حانت لحظة افتتاح المسرح القومى بعد تجديده أواخر عام ٢٠١٤، فى عهد المهندس إبراهيم محلب، رئيس الوزراء، الذى أعطى توجيهاته الحاسمة بتطوير المنطقة وتنظيفها من الإشغالات الدميمة، ووضع نقاط أمنية وعيون تفتيش غزيرة لضمان عدم عودة الباعة الجائلين الذين كانوا يحاصرون المسارح الثلاثة، محاصرة أنياب وحش أعمى لعنق طريدة شهية. وبالفعل، ظل الميدانُ نظيفًا لمدة عام ونصف. ومع ترك المهندس محلب منصبه وتعاقُب الوزارات وتغيُّر القيادات فى المحافظة والحى، عاد الأمر لسابق عهده، حتى وصل اليوم إلى حالٍ ليس أسوأ منها حالٌ.

تحتاج إلى خيال استثنائى حتى تتخيل كيف تستطيع باصات المدارس الوصول إلى مسرح العرائس، وسط كتلٍ بشرية متلاصقة من الباعة، وأطنان من البضائع الركيكة والألوان المُنفّرة. فهل بوسع ذلك الخيال الاستثنائى أن يتصور كيفية وصول سيارة إسعاف أو مطافئ فى أحوال الكوارث؟

ذلك المبنى القمىء المُسمّى «جراج العتبة» الذى يجاور مسرح الطليعة، هو مكمن جواسيس الباعة، أى «الناضورجية» الذين يراقبون المنطقة من شرفات الجراج، فإذا ما لمحوا ظلال أفراد الأمن فى طريقهم لرفع الإشغالات، ينبّهون الباعةَ ليأخذوا حذرهم، وبعد ربع ساعة يعودون إلى حيث كانوا.

بالأمس، كنتُ ذاهبةً لمشاهدة المسرحية الفاتنة «يوم أن قتلوا الغناء» على مسرح الطليعة، وحين هممتُ بالدخول بسيارتى من بوابة المسرح، بعد ساعة ونصف من وصولى لميدان العتبة، فى مسافة لا تستغرق إلا دقيقة ونصف الدقيقة، وجدت بوابة المسرح مسدودة بلوح خشبى مفروش عليه أدوات كهربائية رخيصة، يجلس إليه صبى فى العاشرة من عمره. قلت له: «أنت تسد بوابة المسرح، أنت تخالف القانون!»، فنظر لى شذرًا ورد علىّ بجسارة قائلا: «بالراحة على نفسك شوية يا....». وكاد يحطّم سيارتى لولا أن سارع السائق بالهروب بالسيارة قبل أن أشتبك مع الصبى. سألتُ السائق: «تفتكر الطفل ده لما يكبر هايبقى إيه؟» قال فورًا دون تفكير: «بلطجى أو إرهابى».

يا صُنّاع القرار فى بلادى، اذهبوا إلى مكتب مدير مسرح الطليعة الفنان «شادى سرور»، وانظروا من نافذة مكتبه نظرة علوية على الميدان لتشهدوا القبح يأسر الجمال بكلّ صلف وغلاظة وثقة فى البقاء. انقذوا العتبة المخطوفة بحق الله وحق الجمال وحق الوطن. حرّروا بيوت الثقافة، وانقذوا شرف مصر من الهتك على يدى باعة السلاح والقنابل اليدوية والملابس الداخلية. أولئك مكانهم بكل تأكيد ليس جوار مسارح مصر. فلا يليق أن يجتمع الجمالُ والقبحُ على أرض واحدة. هذه قضية أمن قومى.
نقلا عن المصري اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع