ماكرون والحرب الطبقية والعرب
مقالات مختارة | د.جهاد عودة
السبت ٢٧ مايو ٢٠١٧
وجه إيمانويل ماكرون، الذى يعد أصغر حاكم لفرنسا منذ نابليون بونابرت «عام 1804»، الشكر لأنصاره، قائلاً: «أشكركم من أعماق قلبي، ولن أنساكم. سأبذل كل جهدى كى أكون جديراً بثتقكم».
وأقر ماكرون بأن فرنسا تعانى من الانقسام. وقال: «كثير من الصعوبات أضعفتنا لمدة طويلة... الصعوبات الاقتصادية... أعلم أن الوطن منقسم... أتفهم الشك الذى أعرب عنه الكثير منكم».
وأضاف ماكرون: «أتحدث إليكم جميعا اليوم، شعب فرنسا، نحن ورثة تاريخ عظيم، وهذا التاريخ يجب أن ننقله إلى أولادنا، ويجب أن ننقلهم إلى المستقبل».
وتابع: «سأدافع عن فرنسا.. سأدافع عن أوروبا... سأفعل كل ما هو ممكن لتقوية أوروبا وشعبها.. لن تقف أمامى أى عقبات، سنبنى مستقبلا أفضل... تحيا فرنسا». هذا الانقسام الذى أشار إليه ماكرون، هو الذى سيمهد للانتقال لتشكيلة نخبوية جديدة فى الحياة السياسية الفرنسية، وربما إذا فشل ماكرون سننتقل إلى جمهورية جديدة بدستور جديد.
لا يأتى ماكرون بدون خلفية فلسفية سياسية، هو يأتى بخلفية ليبرالية تؤمن بتعددية المجتمع الفرنسى، فهو عندما كان طالبا فى معهد العلوم السياسية، قادته الأقدار إلى محيط الفيلسوف الفرنسى البروتستانتى بول ريكور «1913-2005» وعمل مساعداً له فيما يتعلق بالتبويب والتوثيق عندما كان بصدد تأليف كتاب «الذاكرة.. التاريخ.. النسيان».
فى الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الفرنسية أظهرت الخارطة الانتخابية أن فرنسا بلد منقسم إلى نصفين، المحافظات الغربية والجنوبية الغربية، إضافةً إلى الجزيرة الفرنسية «باريس وما يحاذيها من محافظات» صوتت بكثافة للفائز بهذه الجولة من الانتخابات، إيمانويل ماكرون، بالمقابل حلّت المرشحة مارين لوبان الأولى فى محافظات الشمال والشمال الشرقي، كما حققت أعلى نسبها فى محافظات ساحل البحر المتوسط.
كما توزعت أصوات المرشحين بطريقة متباينة بين المدن والمناطق الريفية؛ حيث تصدر ماكرون فى كثير من المدن الكبرى مثل: باريس، ليون، بوردو، فى المقابل لا تزال مارين لوبان تعانى فى المدن الكبرى والعاصمة الفرنسية خصوصًا أنها لم تتجاوز نسبة الـ 5%.
فى المناطق الريفية والمدن الصغيرة -أقل من 100 ألف نسمة- كان لمارين لوبان حصة الأسد من بين أصواتها.
تصويت المدن الكبرى لماكرون شيء طبيعى إذا نظرنا إلى المكون الاجتماعى لها؛ نخب متعلمة ذات دخل عالٍ، ومنفتحة على العالم، لكن المفاجئ هو أنه استطاع التفوق على فرانسوا فيون فى العاصمة باريس، وفى مدينة مثل بوردو، التى تصوت ليمين الوسط منذ أكثر من 40 سنة، وهو ما يشير إلى تصويت كتلة لا بأس بها من ناخبى عمدة المدينة، ألان جوبيه، منافس فيون فى تمهيديات الحزب الجمهورى لصالح إيمانويل ماكرون.
محافظات غرب فرنسا المطلة على المحيط الأطلسى حالة فريدة من نوعها، فتاريخياً كانت الأكثر تمسكًا بالديانة المسيحية خلال القرنين الماضيين، وكانت معقل اليمين الرجعى المناهض للجمهورية، ولم تستقر الأفكار الجمهورية فيها إلا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أصبحت تصوت بصورة ملحوظة لمرشحى التيار الوسطى المعتدل «مسيحى ديمقراطي- مسيحى اجتماعي»، إضافة إلى كونها تاريخيًا منفتحة نحو العالم والمبادلات التجارية.
ميزة أخرى تخص هذه المناطق عن باقى فرنسا وهى النسيج المجتمعى الحيوى فيها ونشاط تكافلى كبير للمجتمع المدني، ما سمح لها بالصمود بصورة أفضل من باقى المناطق الفرنسية فى وجه الأزمة الاقتصادية.
وينسب بعض المحللين فشل مارين لوبان فى هذه المناطق إلى غياب تجمعات المهاجرين فيها كما هى الحال فى محافظات الجنوب والشمال، أما المناطق التى صوتت لمارين لوبان، فهى محافظات الشمال والشمال الشرقى الصناعية السابقة، حيث اختفت المصانع وحلت محلها البطالة المزمنة، والآفات الاجتماعية، والشعور بالتهميش والإقصاء من الحكومات المتعاقبة أصبحت معقلًا لحزب الجبهة الوطنية، بعد أن كانت تصوت بكثافة للحزب الشيوعي.
وفى المحافظات المطلة على المتوسط يرجع التصويت فيها لمرشحة الجبهة الوطنية لكونها الأراضى التى استقرت فيها معظم «الأقدام السوداء- المستوطنين فى المستعمرات الفرنسية»، كما يرجع إلى كونها البوابة الجنوبية لفرنسا، والتى تتحمل عبء موجات الهجرة المختلفة.
شهدت هذه الجولة من الانتخابات عودة مصطلح ظنه الجميع اختفى طى النسيان؛ وهو الصراع الطبقي، إذ أن هناك مؤشرات لا تخطئها العين بالنظر لهذا الموضوع، فإن أعلى نسبة حققتها مارين لوبان كانت بين ناخبى الطبقة العاملة، 37%، أما إيمانويل ماكرون فحقق أعلى نسبة بين كوادر الشركات، 33%.
إذا أضفنا إلى هذا عنصر الدخل، فسنجد أن أعلى نسبة تصويت حصل عليها ماكرون كانت بين من يربحون 3000 يورو شهرياً فما فوق بـ32%، أما لوبان فكانت أعلى نسبها بين فئة من يربحون 1200 يورو شهريًا أو أقل بـ32%.
هناك شرخ طبقى يتعمق بين فرنسا المركزية «المدن الكبرى ومحافظات ساحل المحيط الأطلسى المندمجة بصورة جيدة فى العولمة وتجنى ثمارها»، وفرنسا الهامشية االمدن الصغيرة والضواحى البعيدة عن مراكز المدن، الأرياف فى الشمال والشمال الشرقي، المراكز التاريخية للصناعات الثقيلة التى اختفت كالحديد والصلب ومناجم الفحم الحجرى للبلاد التى تعانى من تفكك فى نسيجها الاقتصادى والاجتماعى بفعل العولمة والحدود المفتوحة.
ستشتعل الحرب الطبقية الفرنسية مع بروز التمويلات الاجتماعية القطرية والخليجية الواسعة.
قال إيمانويل ماكرون، ، بأنه «سينهى» فى حال فوزه «الاتفاقات التى تخدم مصلحة قطر فى فرنسا»، وتابع ماكرون: «من جهة ثانية، ستكون لدى مطالب كثيرة إزاء قطر والسعودية فى مجال السياسة الدولية ومن أجل أن تكون هناك شفافية جديدة فيما يتعلق بالدور الذى تؤدّيانه فى التمويل، أو فى الأعمال التى يمكنهما القيام بها تجاه المجموعات الإرهابية التى هى عدوتنا».
نقلا عن الأهرام اليومي