بقلم: نبيل شرف الدين
حتى في سلطنة عُمان التي ظلت كأنها خارج التاريخ والجغرافيا، منذ ثورة ظُفار التي أجهضتها المخابرات الأميركية بالتعاون مع شاه إيران الراحل، ينتفض الناس ويسقط الضحايا، وبالطبع التقطت قوى المعارضة الكويتية الشرارة من المشرق والمغرب للتلويح بنشيد المرحلة المقبلة "ولَّعها ولَّعها.. شعللها شعللها".. حتى تُجبر الحكومة على حزمة مطالب بدت قبل شهرين كأنها المستحيل بعينه.
ولم لا، وقد سقطت أكثر الأنظمة البوليسية صرامة، وأقصد نظامَي مصر وتونس، ففي البلدين كان هناك جهاز أمني أخطبوطي يعدّ على الناس أنفاسهم، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة.. من تعيين الوزراء والنواب حتى عمال البلدية وأئمة المساجد.. لدرجة تندَّر بها المصريون القادرون على السخرية من كل شيء حتى من أنفسهم بالقول، إن المواطن أصبح بحاجة أواخر عهد مبارك لموافقة أمنية قبل أن يجمعه لقاء حميم مع زوجته.
في دول الخليج ربما لم يكن الأمر على هذا النحو، فأحوال المواطنين هناك تبدو للغرباء طيبة لدرجة تنحصر فيها شكوى المواطن من عدم قدرته على تغيير سيارته الفاخرة بأخرى موديل العام الجديد، إذن فلماذا ينتفض هؤلاء؟!.. وماذا يريدون؟
الجواب ببساطة أنه ليس بالمال وحده يرضى الناس ويطيب خاطرهم ويرتاح بالهم، بل هناك اختراع لا يفهمه الكثير من أولي الأمر وهو "الحرية"، نعم.. أقصد حرية أن أكتب مثلاً ما أؤمن به دون خوف من أي فاشية سلطوية كانت أو دينية أو اجتماعية أو غيره.
في الشرق الأتعس كانت قبل بداية العام 2011 ـ تذكروا هذا العام جيدًا لأنه يشهد إعادة كتابة تاريخ المنطقة وربما العالم ـ كانت هنا تقبع آخر بؤر الاستبداد في العالم، فدول أوروبا الشرقية تحرَّرت من قيودها مع انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه، وبعده أيضًا انهارت دكتاتوريات كثيرة في أميركا اللاتينية وحتى في أفريقيا، التي تعاني المجاعات والحروب الأهلية، التي أفضت لدول ديمقراطية في كثير من دول القارة السمراء.
حينما كان ملايين المصريين يهتفون بصوت واحد في قلب ميدان التحرير وسط القاهرة مطالبين بإسقاط النظام، كنت أتابع مشهدًا بالغ الطرافة، فجدتي التي لم أعد أتذكَّر كم عمرها من فرط القِدَم ـ متعها الله بالعافية ـ كانت تحدِّق في شاشة التلفزيون، وقد استجمعت كل طاقتها لترى وتسمع.. بينما ابنتي ذات الستة عشر ربيعًا تهتف كأنها مع المتظاهرين في الشارع، ولا تأبه بجدتي التي تنهرها وتلوِّح لها بعصاها التي تتوكَّأ عليها وليس لها فيها مآرب أخرى، مطالبة إياها بالصمت حتى ترى وتسمع، ثم تتوجَّه إليَّ متسائلة باستنكار: "الناس دي عايزة إيه.. مالو مبارك.. راجل طيب وعاقل".. ولا أجد ردًّا مقنعًا لجدتي فأكتفي بابتسامة ساخرة، لكن الجدة لا تسكت، بل تواصل سبَّ المتظاهرين ونعتهم بأقبح الصفات، معتبرة أن "الناس انفلتت عقولها"، وهنا تتدخل ابنتي لتسخر من الجدة قائلة لها: "اسكتي احسن يعتبروكي من أعداء الثورة ويموِّتوكي"، وهنا أجدني محشورًا بين جيلين، لا أملك إقناع أيٍّ منهما بالتنازل قليلاً.
الجدة تتمتم بعبارات غير مسموعة، وتحوقل وتبسمل مستعيذة بالله من الشيطان الرجيم الذي "ركب" هؤلاء الناس فأصابهم بالجنون وحينما أطلَّ عمر سليمان لينهي في ثلاثين ثانية حكم ثلاثين عامًا قضاها مبارك على عرش مصر كحاكم لا تُرد له كلمة، حينها لمحت دمعة في عين جدتي، وراحت ترتعش كأن مبارك ولدها، رغم أنها ـ أي الجدة ـ لم تكن بالطبع وزيرة في حكومة نظيف، ولا تجمعها صداقة بالسيدة سوزان وليست لها استثمارات مشتركة مع أحمد عزّ، لكنها بكت وكادت تنهار حتى حملتها حملاً إلى سريرها.
في الوقت ذاته كانت ابنتي تبكي أيضًا، ولكن من فرط الفرح والطرب، مع أن مبارك لم يمنعها من دخول البرلمان، ولم يكن عائقًا أمام أي مطلب لها، لكنها اشتبكت مع "الحالة" واعتبرت نفسها جزءًا من "الثورة"، وراحت تردِّد أناشيدها، وتستلهم هتافاتها الهادرة.
إنها باختصار أزمة تواصل بين الأجيال، فالشرارة الأولى للثورة في مصر وتونس وليبيا لم تنطلق من الأحياء العشوائية، ولم تكن "ثورة جياع"، بل قادها شباب يعيشون حياة مريحة لحد كبير، وبالتالي فمجرد "رشوة الشعوب" لم تعد حلاًّ، وتفهم رغباتهم في الحرية يبدو كأنه حديث بين مخلوقين من كوكبين مختلفين، فالطبقة الحاكمة من المريخ، والشعوب التي ظلت مغلوبة على أمرها من كوكب "الزهرة".
يحلو لبعض من يتحسَّسون رؤوسهم في عواصم عربية يقترب منها "تسونامي" الانتفاضات والثورات، أن يصفوا أبناء بلادهم أنهم "غير" فشعبي الطيب لا يمكن أن يفعل كما فعل التوانسة أو المصاروة.. شعبي طيب ومهذب وأنا أراعي الله فيه"، هكذا يقول الحاكم لنفسه وخلفه تردِّد جوقته من بطانة الخير أو السوء: "نعم شعبكم يا سيدي غير، وأنتم أيضًا غير"، ومع ذلك فلا يستطيع الحاكم أن ينام إلا بمساعدة طبية، أو استخدام المهدئات والمنوِّمات، ليستيقظ أحيانًا مفزوعًا من مصير بن علي ومبارك والقذافي.
المختصر المفيد.. هي تلك الحكمة الرائعة التي قالها عادل إمام حين كان لم يزل "كوميديانًا" يستطيع انتزاع الضحكات من المأزومين وقبل أن يصاب بداء الحكمة والرصانة، والتي قال فيها: "كل واحد يخللي بالو من لغاليغو".. فهذه حرائق الشعوب تمتد من المشرق للمغرب، ولم تعد تطمينات من طراز "نحن غير" كافية لينام الحكام في مخادعهم آمنين مطمئنين، ولعلها المرة الأولى التي أشعر فيها بالشفقة عليهم، وأحمد الله تعالى أنني لم أكن منهم أو أحظى بشرف الالتحاق ببطانتهم.. مع اعترافي بأنني تمنيت ذلك ذات يوم، لكن رحمته كانت واسعة، وحكمته الخافية كانت فوق إدراكي، حين أبت ألا تحقق لي تلك الأمنية.
والله المستعان