حدود دور وقدرة الكنيسة
مقالات مختارة | الوطن -بقلم د. عماد جاد
الأحد ٤ يونيو ٢٠١٧
مرت علاقة الدولة بالكنيسة بمراحل عدة منذ ثورة يوليو ١٩٥٢، ففى مرحلة ما بعد الثورة، ومع تبلور دور جمال عبدالناصر، كان يجلس على كرسى «مار مرقس» البابا كيرلس السادس.
وبعد مرحلة ضبابية، نشأت علاقة إيجابية بينهما جرى عبرها حل المشاكل التى كانت تظهر أولاً بأول، وساعدت شخصية البابا كيرلس السادس، الهادئة، المتواضعة، الروحانية، على تمتين العلاقة مع رأس الدولة.
رحل جمال عبدالناصر، وبعد تنيُّح البابا كيرلس السادس مباشرة، تولى السادات رئاسة مصر، وجلس البابا شنودة الثالث على كرسى مار مرقس، جاء السادات فاقداً الكاريزما، فبدأ فى خلط الدين بالسياسة، وخطط لاستخدام الجماعات الإسلامية التى شكّلها ضد التيارين الناصرى واليسارى فى الجامعات المصرية، وهى الجماعات التى حصلت على دعم السادات المادى والمعنوى، بما فى ذلك السلاح بكافة أنواعه، وقد بدأت هذه الجماعات فى مرحلة تالية العمل ضد الأقباط، سواء فى الجامعات، لا سيما فى صعيد مصر، أو ضد تجمعات الأقباط فى بعض مدن الصعيد وقراه.
تزامن ذلك مع أسلمة المجال العام واستخدام مؤسسات الدولة فى التضييق على الأقباط الذين لجأوا إلى الكنيسة طلباً للحقوق وبحثاً عن الحماية، وهو ما تعامل معه البابا شنودة الثالث برؤية سياسية كاملة، فباتت الكنيسة ملجأ الأقباط وملاذهم الآمن، بدأت تعبر عنهم وعن مطالبهم وهمومهم، وكلما تعرضوا للاعتداء من قبَل الجماعات المسلحة التى شكّلها النظام، وواجهوا سياسات التمييز، التصقوا بالكنيسة أكثر واحتموا بأسوارها وانعزلوا عن المجتمع.
انفرد البابا شنودة الثالث بالتعبير عن الأقباط دينياً وتمثيلهم سياسياً أمام الدولة، وعمل بكل قوة على منع ظهور نخبة مدنية قبطية يمكنها انتزاع هذا الدور أو تمثيل الأقباط سياسياً. ارتاحت الدولة والكنيسة لهذه المعادلة، فقد كان نظام السادات يعرف عنواناً واحداً لتمثيل الأقباط، وهو المقر البابوى بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
انتهى الأمر بالصدام بين السادات والبابا، فكنت قرارات سبتمبر ١٩٨١ والتى شملت اعتقال المئات من الرموز المصرية من كافة الاتجاهات السياسية والتيارات الفكرية، والتحفظ على البابا شنودة الثالث فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون. قبل مرور ستة أسابيع على قرارات الاعتقال، قُتل السادات على يد الجماعات التى أنشأها وأراد توظيفها لخدمة مشروعه السياسى
. جاء مبارك من بعده وترك البابا متحفَّظاً عليه قرابة أربع سنوات، فلم يخرج البابا من الدير إلا فى يناير ١٩٨٥، خرج ووجد معادلة السادات قائمة كما هى، فقد حافظ مبارك على معادلة السادات، وواصل توظيف الخوف من التيار الدينى وجماعة الإخوان للضغط على الأقباط من أجل الارتماء فى حضن الدولة تماماً، فى الوقت الذى تواصلت فيه سياسات التمييز والظلم بحق الأقباط، وباتت سياسات عامة ممارسة دون سند قانونى، ناهيك عن الدستورى.
فى تلك الفترة كان البابا شنودة الثالث هو المعبر عن الأقباط سياسياً، فأى مشكلة تطرأ كانت الدولة تبادر بالاتصال بالكنيسة من أجل الحل والتسوية، والتى كانت تتم على أسس واقعية بعيدة عن مبدأ المواطنة والحقوق.
وعندما كان يتعرض الأقباط لمشكلة ما كانت الكنيسة تتصل بالدولة من خلال وسطاء معروفين ومحل ثقة الطرفين من أجل تسوية هذه النوعية من المشاكل، وعادة ما كانت الدولة ترجع إلى الكنيسة وتتشاور معها فى ترشيح شخصيات قبطية لتولى مناصب سياسية تشريعية أو تنفيذية. أحكم البابا شنودة الثالث قبضته على الكنيسة وسيطر على غالبية الأقباط بسمات الكاريزما التى تمتع بها نتيجة مواقفه الصلبة فى مواجهة السادات، ومنع ظهور نخبة قبطية مدنية حتى يظل هو المرجعية الوحيدة للأقباط فى العلاقة مع الدولة.