حينما قرأت تفاصيل الحادث الإرهابى البشع الذى استهدف عدداً من المواطنين الأقباط بالمنيا وأسفر عن استشهاد (29) شخصاً وإصابة (27) آخرين؛ استدعت ذاكرتى تلك العبارة التى أتت على لسان سلطان القلوب الصوفى الكبير «جلال الدين الرومى» الذى وُلد قبل (800) سنة وتوفى قبل (734) سنة، والذى ما زالت رسالته السامية فى الحب، الذى هو جوهر الوجود وسر الحياة، تتألق وتتدفق وتتواصل منذ ثمانية قرون وحتى الآن، حتى إن «اليونيسكو» التى اعترفت بحاجة الإنسانية إليه سجلت سنة (2007) عام «جلال الدين الرومى»، وقال عنه المستشرق «أ. ج. آربرى»: لقد أنقذ «الرومى» العالم من القلق والاضطرابات قبل سبعمائة عام.. وأوروبا اليوم لن تستطيع أن تتخلص من معاناتها النفسية إلا عن طريق كتبه التى ألفها. أما «أيرانا ماليكوف» فتقول: «لئن قامت أمم العالم بترجمة كتب جلال الدين الرومى إلى لغاتها وقرأتها بوعى لانتهت الحروب وأزيلت الأحقاد وانطفأت شرارات الكراهية والبغضاء بين البشرية جميعاً، ولانتشر الحب والسلام فى كافة أرجاء الدنيا، فقد كان مولانا يمثل النضج العقلى فى أعلى مراتبه والنبض القلبى فى أرقى وأروع مشاعره، واتحدت عنده «المدرسة» و«التكية»، لذا استطاع إشباع العقول وإرواء القلوب والأرواح فى آن واحد، فهو دعوة مستمرة إلى الحب، ونداء دائم إلى السعادة والجمال من الماضى إلى الحاضر، ومن الحاضر إلى المستقبل».
وتقول د. «جيهان أوقويوجو»، مؤلفة كتاب «مولانا جلال الدين الرومى»: «لقد تكلم مولانا بلغة فوق جميع اللغات، فإحدى رجليه كانت مثل فرجار ثابتة على قيمه هو، والأخرى متحركة حول مساحة تحتضن اثنين وسبعين ملة وشعباً.. لقد رأى المسلمون فيه الأخلاق المحمدية، ورأى فيه المسيحيون خُلق المسيح عيسى، ورأى فيه اليهود خُلق موسى».
ما يجعلنى أتحصن «بجلال الدين الرومى» تحديداً هو ما تنبهت إليه المبدعة «أليف شافاك»، صاحبة رواية «قواعد العشق الأربعون»، وهى الروائية الأكثر مبيعاً فى تركيا والتى نالت جوائز أدبية عالمية وتركية عديدة وتُرجمت أعمالها إلى معظم اللغات العالمية. تنبّهت «أليف شافاك» إلى أن القرن الحادى والعشرين لا يختلف عن القرن الثالث عشر من أوجه متعددة، والقرن الثالث عشر هو القرن الذى ظهر فيه «جلال الدين الرومى»، حيث سيذكر التاريخ هذين القرنين بوصفهما زمنين من أزمنة التصادم الدينى الذى لا سابقة له وسوء الفهم الثقافى والإحساس العام بانعدام الأمن والخوف من الآخر. وفى مثل هذه الأوقات تكون الحاجة إلى الحب أكبر من أى وقت مضى، لأن الحب هو جوهر الحياة وصدفها.. وكما يذكّرنا «الرومى» فإنه يهاجم الجميع بمن فيهم أولئك الذين يتحاشونه.
وفى التصدير الذى يأتى فى مقدمة الرواية ما يذكره المترجم د. «محمد درويش» من أن القرن الثالث عشر كان حقبة مضطربة فى الأناضول، نظراً لما شهدته من صدامات دينية ونزاعات سياسية وصراعات لا نهاية لها على السلطة.. وفى العالم الغربى اتجه الصليبيون إلى القدس واحتلوا فى طريقهم إليها مدينة القسطنطينية وسلبوها، مما أدى إلى تقسيم الإمبراطورية البيزنطية.. أما فى الشرق فقد توسعت رقعة جيوش المغول توسعاً مطرداً. وبين هاتين البقعتين خاضت القبائل التركية حرباً أهلية، فى حين سعى البيزنطيون إلى استرداد أراضيهم وثروتهم وسلطتهم المفقودة. كان عصر فوضى لا سابقة له عندما حارب المسيحيون المسيحيين، وحارب المسلمون المسلمين، وحارب المسلمون والمسيحيون بعضهم بعضاً.. وحيثما استدار المرء وجد حرباً وعذاباً وقهراً وخوفاً رهيباً من أحداث المستقبل.
فى خضمّ هذه الفوضى الضاربة أطنابها فى كل مكان عاش المفكر والشاعر والزعيم الروحى «جلال الدين الرومى»، وكان له آلاف الأتباع والمعجبين من جميع أنحاء المنطقة وما حولها، وكان المسلمون ينظرون إليه بوصفه منارة.
وحينما التقى «الرومى» بـ«شمس التبريزى» الدرويش غيّر ذلك اللقاء حياتهما، وتحول «الرومى» من رجل دين اعتيادى إلى صوفى ملتزم وشاعر مشبوب العاطفة، مدافع عن الحب ومبتكر رقصة الدراويش الدائرية المثيرة، وبلغت به الجرأة حدّ الخروج عن القواعد المألوفة والأعراف المستقرة والقوالب الجاهزة والأفكار التقليدية الثابتة.. وفى عصر اتسم بالتعصب الأعمى والتشدد المذهبى الصلب ناصر «الرومى» الروحانيات الكلية وفتح أبوابه للناس على اختلاف أفكارهم وتصوراتهم، وحوّل الجهاد إلى الداخل، حيث يتجسد الهدف فى الجهاد ضد النفس.
وفى الجهاد ضد النفس المضطربة العاصية يتشكل ويتكون «دين الحب» الذى يؤمن بأن إدراك الحقيقة عمل من أعمال القلب وليس العقل.. «دع قلبك يرشدك أولاً وليس عقلك.. التق نفسك وتحداها وسيطر عليها بقلبك.. إن معرفتك بنفسك ستقودك إلى معرفة الله».
وفى قصيدة للرومى يقول مطلعها:
توجه للحب يا حبيبى.. فلولا حياة الحب الجميلة لكانت الحياة عبئاً ثقيلاً.
إن المدن تشيد على أعمدة روحية، وهى تعكس قلوب سكانها شأنها شأن المرايا العملاقة، فإذا اسودت تلك القلوب وفقدت إيمانها فإن المدن ستفقد بهاءها بدورها.
«إن البحث عن الحب يغيرنا.. وما من باحث بيننا يسعى وراء الحب ولم ينضج فى طريقه إليه، ففى اللحظة التى تبدأ فيها بالبحث عن الحب يبدأ التغيير عليك باطناً وخارجاً».. تلك هى رسالة «الرومى» إلينا.. علينا اختيار أحد النقيضين ولا شىء آخر بينهما، إما الحب الصافى أو الكراهية. وفى طريق الحب ننبذ الكراهية، فما من حكمة بلا حب، وما لم نعرف كيف نحب مخلوقات الله فإننا لا نستطيع أن نحب الله حباً صادقاً أو نعرفه معرفة حقيقية، أما الكراهية فهى تكمن فى الداخل، ويشبهها «الرومى» بالقذارة التى تلوث النفس وتلتصق بها التصاقاً لا يزول، ففى إمكاننا تنظيف أجسادنا بالتقشف والصوم، ولكن الحب وحده هو الذى ينقى القلب.
والداعشيون وكتائب التكفير الذين يحملون خطاب الكراهية حصدوا أرواح أطفال يحملون قلوباً طاهرة وخطاب حب قصدوا به الكنيسة ليرتلوا ترانيم الحب والسلام.. والظلاميون وأعداء الحياة وأنصار الردة الحضارية الذين يحملون خطاب البغض المحض تتحول معهم الفتاوى المسمومة إلى دماء بريئة متناثرة على أسفلت الطريق وأحزمة ناسفة لمفخخين لا يأبهون بالموت لأنه طريقهم إلى الفردوس. وبين نزيف الدماء وإبادة أسر بأكملها ونيران الإرهاب وفوضى الرعب ودولة مدنية تتآكل وحلول أمنية غير قادرة على إعادة الوعى إلى عقول خُربت ونفوس لُوثت بوهابية تنبذ الآخر وتدفع بنا إلى ظلامية أشد هولاً من ظلامية العصور الوسطى.. تُجرّد الإنسان من فكره ومن عقله ومن عواطفه ومن إنسانيته وتحوله إلى كائن بشع خارج الحضارة.. وخارج التاريخ.