حين بنى القبطى مسجداً!
مقالات مختارة | د. محمد صلاح البدرى
الاثنين ٥ يونيو ٢٠١٧
لم تكن الخلافة العباسية مرضية لمصر والمصريين طوال تاريخها.. ومع ذلك فقد ظلت مصر خاضعة خضوعاً تاماً للخلافة العباسية ما دامت الخلافة قوية.. ولكن لما بدأ الضعف ينخر فى جسمها نتيجة للصراع بين ابنى هارون الرشيد الأمين والمأمون، وتفاقم هذا الضعف حينما بدأ الخليفة العباسى المعتصم بالاستعانة بالأتراك فى حكم البلاد، الذين تعاظم نفوذهم فى دولة الخلافة العباسية حتى وصل إلى حد انتخاب الخليفة أو عزله، بدأ بعض الولاة يسعون للاستقلال بولاياتهم بعيداً عن سلطة الخليفة.. ومن هؤلاء ذلك العسكرى العادل. أحمد بن طولون.
والحقيقة أننا إن بحثنا عن بداية حقيقية لتاريخ مصر الإسلامية.. سنجد أنه يبدأ فعلياً مع الطولونيين.. فلم تبدأ الدولة المصرية فى العصر الإسلامى فى التشكل الحقيقى إلا فى عهده.. ولم يعرف المصريون عهداً مزدهراً عادلاً مثل ما عرفوه فى ظل حكمه!
كان أحمد بن طولون قد قدم إلى مصر عام 868 ميلادية من قبل الأمير باكباك صاحب إقطاع مصر، كان شاباً له من العمر 33 عاماً.. وجد الخلافة ضعيفة.. فتحدى سلطة الخليفة واستقل بمصر فعلياً بل وضم سوريا إليها، وأسس دولته التى عرفت باسمه.. والتى دامت لنحو 38 عاماً بعيداً عن سلطة الحكام العرب!
كان حرصه على إرضاء المصريين هو العامل الأساسى الذى أكسبه حبهم بقوة.. فقد بدأ حكمه بعزل جباة الضرائب الدخلاء وعين بدلاً منهم مصريين، كما حرص أيضاً على توجيه عنايته لكل الشعب دون فرق، فمنح حرية العبادة للجميع حتى اليهود، وسمح للأقباط بمزاولة شعائرهم الدينية وبناء الكنائس والأديرة دون قيود، كذلك مباشرة أعمالهم التجارية والزراعية دون مضايقات!
ينسب لابن طولون العديد من مظاهر النهضة الاقتصادية التى عاشت فيها البلاد.. فقد قام ببناء عاصمة جديدة وسماها القطائع.. وشيد بها قصراً عظيماً.. ومستشفى فريداً فى شكله.. حتى إنه قد جعل العلاج به مجانياً لكل الفئات دون تمييز بين الطبقات والأديان.. فكان المريض إذا دخله نزعت ثيابه وألبس ثياباً جديدة.. ويظل المريض تحت العلاج حتى يتم شفاؤه.. وكانت دلالة شفاء المريض أن يتناول رغيفاً ودجاجة كاملة.. ولكن يظل مشروعه الأشهر هو مسجده الفريد.. الذى ربما كان السبب الأساسى لبقاء سيرته حتى الآن فى التاريخ المصرى.. فقد حكى كتاب «القاهرة: جوامع وحكايات»، أن ابن طولون كان يصلى فى مسجد شديد الضيق.. فقرر أن يبنى مسجداً كبيراً لا مثيل له على أرض المحروسة.. فحلم أن الله تعالى تجلى لجميع القصور المحيطة بموضع جامعه، ولم يتجل للجامع، ففسر له المفسرون «يخرب ما حول الجامع، ويبقى قائماً وحده»، وعندها بنى المسجد، وبعد بنائه رأى ابن طولون حلماً آخر أن ناراً عظيمة التهمت المسجد، فبشره المفسرون لما قص عليهم الحلم أن الله قد تقبله.. الطريف أنه حين شرع فى بناء المسجد بحث عن أمهر المهندسين فى مصر.. فأتوا له بمهندس قبطى يدعى سعيد بن كاتب الفرغانى.. فقال له أحمد بن طولون: أريد مسجداً إذا احترقت مصر بقى وإذا غرقت بقى.. فبنى له ذلك المهندس القبطى المسجد الذى بقى حتى يومنا هذا شاهداً على عظمة العمارة المصرية.. وعلى وحدة هذا الوطن وهذه الأرض.. التى بنى فيها قبطى مسجداً!
نقلا عن الوطن