الصوم عن الكلام.. فضيلة غائبة (2)
مقالات مختارة | أحمد عبدالظاهر
الاثنين ٥ يونيو ٢٠١٧
انتهينا فى مقال الأسبوع الماضى إلى أن ترشيد استخدام اللسان هو بداية صلاح الأفراد والمجتمعات. فقد رُوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صمت نجا». قال الغزالى: «من تأمل جميع آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم، لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب، وهى على طريق المتكلم، فإن سكت سلم من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه، إلا أن يوافقه لسان فصيح، وعلم غزير، وورع حافظ، ومراقبة لازمة، ويقلل من الكلام؛ فعساه يسلم عند ذلك، وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر، فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم، فكن ممن سكت فسلم، فالسلامة إحدى الغنيمتين». وعن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لى ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة». قال ابن حجر فى شرح هذا الحديث: «من أدى الحق الذى على لسانه من النطق بما يجب عليه، أو الصمت عما لا يعنيه ضمن له الرسول صلى الله عليه وسلم الجنة.. فإن النطق باللسان أصل فى حصول كل مطلوب، فإذا لم ينطق به إلا فى خير سلم، وقال ابن بطال: دل الحديث على أن أعظم البلاء على المرء فى الدنيا لسانه وفرجه، فمن وقى شرهما وقى أعظم الشر».
هى إذن دعوة للصوم عن الكلام، وألا يتحدث المرء إلا بخير. فعن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت». قال ابن عبدالبر: وفى هذا الحديث آداب وسنن، ومنها التأكيد فى لزوم الصمت، وقول الخير أفضل من الصمت، لأن قول الخير غنيمة، والسكوت سلامة، والغنيمة أفضل من السلامة.
هى إذن دعوة للصوم عن الكلام، لأن الإعراض عن اللغو من أولى صفات المؤمنين. يقول الله عز وجل فى سورة «المؤمنون»: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)». وقد جاء وصف «الإعراض عن اللغو» فى هذه الآيات سابقاً على عبادات أداء الزكاة، والحفاظ على الصلوات، ورعاية الأمانات والعهود، واجتناب حد الزنا.
هى إذن دعوة للصوم عن الكلام والجدل، ولو كان الشخص محقاً، لأن المراء لا يأتى بخير. فقد رُوى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا زعيم ببيت فى ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً...». وقال صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل». ثم قرأ هذه الآية: «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ». وعن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم». قال الصنعانى: أى الشديد المراء، أى الذى يحج صاحبه.
هى إذن دعوة للصيام عن الكلام، ولو كان الشخص مظلوماً أو مهضوماً حقه، وليكن رائده فى ذلك قول نبى الله يعقوب: «إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ».. وكما يقول المثل العامى أو العبارة المأثورة: الشكوى لغير الله مذلة.
هى إذن دعوة للصوم عن الكلام، وعدم التدخل فى شئون الناس، ممتثلاً قول النبى صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». قال أهل العلم: هذا الحديث أصل عظيم من أصول تهذيب النفس وتزكيتها، وقد عدّه بعضهم ثلث الإسلام، وقالوا: اجتمع فيه الورع كله.
هى إذن دعوة للصوم عن الكلام، ولو كان الرجل يعتقد أن الهدف من كلامه وحديثه هو إصلاح أحوال الناس. فالإصلاح بالفعل والعمل الطيب أشد تأثيراً من الإصلاح بالقول، ولذلك يقولون: فعل رجل فى ألف رجل خير من قول ألف رجل فى رجل. وقد انتشر الإسلام من خلال التجار المسلمين، وما لمسه الناس فيهم من الأمانة وحسن الخلق.
لكل ما سبق، يمكن القول بأن معظم مشاكل مجتمعاتنا ليست فى شئون السياسة والاقتصاد، بقدر ما هى فى آفات استخدام اللسان.. وللحديث بقية.
نقلا عن الوطن