الخُضرة والجبال العالية في إكس يوجوسلافيا

فاروق عطية
   من مارس 1992 حتى نوفمبر 1995 كانت هناك حرب طاحنة تجري في يوجوسلافيا ومسرحها بقعة صغيرة لا تكاد تري علي خارطة العالم هي البوسنة والهرسك. أتذكر في تلك الفترة كانت وسائل الميديا المصرية تطنطن بأنها حرب ديبية بين مسيحي الصرب الأرثذوكس ومسلمي البوسنة، وتحاول بطريقة مستترة أن تحرض علي فتنة طائفية للتنكيل بأقباط مصر لأن أغلبيتهم أرثذوكس أخذا بالثأر لما يحدث في البوسنة رغم أنه لا توجد أي رابطة دينية بين الأرثذوكس البوسنيين أو الصربيين وبين الأرثذوكس المصريين. وأتذكر أيضا أن النفير قد انطلق للجهاد وذهب العديد من المتطوعين من مصر والعديد من الدول الإسلامية إلي البوسنة للدفاع عن مسلميها. كما أتذكر أن الميكروفونات كانت تنطلق من المساجد في كل أنحاء مصر تدعو الناس للتزوج من مسلمات البوسنة اللاجئات إلي مصر ولا يكلف الزواج من أي منهن سوي أجر المأذون والصداق الذي لا يتعدي ال 25 قرشا. منذ تلك الأيام وأنا أحلم بالذهاب لتلك المنطقة واستجلاء الحقيقة، ولكن لم يكن لدي الوفت المناسب لانشغالي بمهامي الوظيفية.

   بمضي الزمن نسيت هذا الحلم. وبعد تقاعدي وانتقالي إلي وطني الجديد كندا، ساقتني ظروف السكن والجيرة للتعرف والصداقة مع العديد من مواطني كندا من مهاجري إكس يوجوسلافيا، خاصة من الصرب والبوسنة. تعجبت لمدي المحبة بينهم رغم ما سمعناه من حرب بينهم. من أصدقائي عرفت أنهم قبل الحرب خاصة أيام يوزيب بروز تيتو كانوا شعبا واحدا لا تفرقهم الأديان، عادي أن يتزوج الأرثذوكسي مسلمة، وأن يتزوج المسلم أرثذوكسية أو كاثولوكية، ليس هذا فقط بل عادي أن يتزوج اليهودي مسلمة أو مسيحية. هنا في كندا من أصدقائي علي سبيل المثال بوجدان الأرثذوكسي متزوج من ياسمينكا المسلمة، وميرزا المسلم متزوج من دراجنا الأرثذوكسية وابنتهما المسلمة لها صديق "بوي فريند" يهودي تعيش معه في إسرائيل ويزورانها هناك كل عام، وأنيسة المسلمة كانت متزوجة من مسيحي أرثذوكسي ولها منه إبن (زوران) وإبنة (مريّا) وهما أرثذوكسيان كوالدهما وبعد وفاته تزوجت من مسلم ولها منه إبن (جاسر) مسلم كوالده ويعيش الجميع معا بلا حساسية دينية. ذهبت معهم إلي حفلاتهم الموسيقية بالنادي الصربي وجدت الجميع يرقصون ويغنون أناشيدهم الوطنية ويتعانقون كإخوة. زاد عجبي وأردت أن أعرف كيف ومتي بدأت العداوة، والسبب الحقيقي للحرب، أريد أن أعرف الموقف الآن بعد حوالي 25 سنة من نهاية الحرب هل عاد الوئام والحب كما كان خاصة بين الأجيال الجديدة ؟ جاءتني الفرصة لزيارة إكس يوجوسلافيا خاصة الصرب والبوسنة مع أصدقائي الذين رحّبوا باستضافتي معهم، وجدتها فرصة سانحة لا تعوض لأسأل وأتقصي وأحاول أن أفهم.

  قبل أن أسرد عليكم خطوات رحلتي والأماكن التي زرتها والناس الذين تقابلت معهم والأسئلة التي وجهتها لهم وما تلقيته منهم من إجابات أنارت لي طريق معرفة الأسباب الحقيقية للحرب بين أخوة وأصدقاء. ولكن بداية كان لا بد أن أسقط بقعة من الضوء علي تاريخ وجغرافية إكس يوجوسلافيا باختصار شدسد. لغويا يوجوسلافيا تتكون من مقطعين "يوجو ، سلافيا"، يوجو تعني في اللغة الصربوكرواتية جنوب، وسلافيا تعني الدول السلافية
والمقصود بها صربيا وكرواتيا وسلوفانيا ومقدونيا
   يرجع تاريخ يوغسلافيا إلى القبائل السلافية التي استوطنت منطقة البلقان منذ القرنين السادس والسابع الميلادي، كونوا أول اتحاد في 1171م. وفي عام 1499م استطاع العثمانيون هزيمة الصرب في معركة أمسفيلد وتمكنوا من توحيد البلقان تحت سيطرتهم وقد شكلت منطقة البلقان جزءاً من الامبراطورية العثمانية للقرون الأربع التالية. وفي عام 1877م نال الصرب استقلالهم بعد هزيمة العثمانيين في الحروب الروسية العثمانية. وفي عام 1882م أُعلن قيام المملكة الصربية، بينما صارت مناطق كرواتيا، سلوفاكيا، البوسنة والهرسك تدريجيا تحت إمرة الإمبراطورية النمساوية ـ الهنجارية. ووقفت الإمبراطورية النمياوية ـ الهنجارية ضد المد القومي السلافي الداعي لوحدة الشعوب السلافية بالبلقان.

   إشتعلت الحرب العالمية الأولي عندما قام طالب صربي باغتيال ولي العهد النمساوي فرانز فرديناند في 28 يونيو 1914م. بعد انتهاء الحرب وتقسيم الإمبراطورية، اتحدت في عام 1918م كل من صربيا وكرواتيا وسلوفينيا تحت قيادة ملك الصرب بطرس الأول باسم" مملكة صربيا، كرواتيا، سلوفانيا". خلف بطرس الأول الملك الكسندر الأول الذي انتهج حكما عسكريا منذعام 1929م حتي اغتياله عام 1934م، وأعيد تسمية البلاد بمملكة يوجوسلافيا. في عام 1941 ناصر الملك بطرس الثاني دول المحور في الحرب العالمية الثانية مما دعي إلي إسقاطه علي يد الجيش. انتهز هتلر هذه الفرصة وأمر القوات الألمانية والإيطالية باحتلال البلاد. وفي عام 1943م صار يوزيب بروز تيتو زعيما للمقاومة اليوجوسلافية التي تمكنت مع القوات السوفياتية من تحرير البلاد عام 1945م.

   بعد تحرير يوغسلافيا من الاحتلال الألماني عام 1945م أُعلنت في نفس السنة قيام اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الشعبية، وأصبح تيتو رئيسا للاتحاد الذي يضم كل من صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود وجمهورية مقدونيا. استمر تيتو رئيسا للاتحاد حتى مماته عام 1980م. في الفترة ما بين 1945 حتي 1948 كانت يوجوسلافيا تتبع الاتحاد السوفييتي، إلي أن ظهرت بوادر خلافات بينهما مما دعي يوجوسلافيا لاتباع سياسة محايدة ايجابية دوليا مُشكّلة مع مصر والهند منظمة عدم الانحياز.ً

   مع انهيار الاتحادالسوفييتي تعالت الأصوات المنادية بفك الاتحاد. أعلنت كل من كرواتيا وسلوفينيا وجمهورية مقدونيا استقلالها عام 1991م، وبدأت بذلك الحروب اليوجوسلافية لاسترجاع الجمهوريات المنفصلة بين الجيش الاتحادي (الصرب) وبينهم. في عام 1992 أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن الاتحاد مما أدخلها في حرب أهلية مع الصرب والبوسنيين الصرب، ومع الكروات والبوسنيين الكروات. اعترفت المجموعة الأوروبية والولايات المتحدة بكرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك. في عام 1992 أُنشئت محكمة مجرمي حرب يوجوسلافيا في لاهاي، أنهت الحرب مع توقيع اتفاقية دايتون للسلام عام 1995م ونشر قوات دولية في البوسنة. عندما بدأ الاتحاد اليوجوسلافي عام 1991م محاولة انهاء الحركات الانفصالية بالقوة، أدي ذلك في الفترة 1991- 2001م إلي عزل يوجوسلافيا دوليا وفرض عقوبات دولية عليها. في عام 2003 كونت صربيا والجبل الأسود اتحاداً فيما بينهما أطلق عليه جمهورية يوجوسلافيا الاتحادية. وفي عام 2006م أعلنت كلا من صربيا والجبل الأسود استقلالهما عن الاتحاد اليوغسلافي ليعلن زوال الاتحاد اليوغسلافي.

   إذا نظرت لخارطة يوجوسلافيا تجد أن المجر والنمسا تحدها من الشمال، ومن الجنوب اليونان وألبانيا ومن الشرق رومانيا وبلغاريا ومن الغرب يفصل بينها وبين إيطاليا البحر الإدرياتيكي. وتمتاز الطبيعة في جمهوريات يوجوسلافيا السابقة بالجمال الخلاب من جبال عالية يصل ارتغاع بعضها لأكثر من 3000 متر عن مستوي سطح البحر، وهي جبال دائمة الخضرة تكسوها الغابات والأشجار العالية. بها كثير من الوديان وأماكن رياضات التزلق علي الجليد الذي يكسوها شتاء، وعند ذوبان الجليد صيفا تتحول إلي مخرات تغذي الأنهار الكثيرة. كما يوجد الكثير من الشلالات والبحيرات الطبيعية التي تزيد من جمال مدنها ومتعة سكانها وزائريها. ومعظم الجبال هي جبال رسوبية من الحجر الجيري وأيضا توجد بعض الجبال النارية. ويكتر بهذه الجبال الإلتواءات والتشققات نتيجة عوامل التعرية والحركات الأرضية. ويحلو لسكانها بناء منازلهم فوق قمم الجبال وأسفلها وفي الوديان الخصية. وتشاهد قطعان الأغنام من خراف ومعيز تجوب بين أعشابها. تشتهر البلاد بالزراعة وأهمها القمح والذررة والخضروات والفواكه كالتفاح والكمثري والبرقوق وبعض أنواع المكسرات مثل البندق والجوز. كما يوجد بها الكثير من الصناعات المختلفة الحديثة.