الصقيع الإلكترونى
مقالات مختارة | الأهرام
السبت ١٧ يونيو ٢٠١٧
بقلم - د. هاني تادرس
اقتربت عقارب الساعة من السادسة والنصف صباحاً ذات صباح يومٍ شتوي، بدا للوهلة الأولى يوماً عادياً. لاحظت انقطاع التيار الكهربائي، وتوقف أجهزة التدفئة عن العمل مما أصاب أطرافي ببرودة شديدة. توجهت إلى الحمام لأجد صنابير المياه تعاني الجفاف. لم يكن ذلك بالأمر المألوف في هذه المدينة الصغيرة الواقعة على أطراف الجنوب الشرقي لدولة كندا، حيث أعيش مهاجراً منذ عشرة أعوام. اقتربت من جهاز المحمول لأتصفح آخر مستجدات أخبار الوطن كعادة كل مصري يعيش بالخارج، وجدت الجهاز ساكناً بلا حراك، ظننت أن الشحن قد فرغ ولم يعاد الشحن بسبب انقطاع التيار. لم يكن جهاز الحاسوب أفضل حالاً. ارتديت ملابسي على عجل قاصداً الشارع لاستطلاع الأمر، تجاهلت سيارتي الحديثة التي رفض محركها أن يعمل لسبب لا أعلمه.
توجهت مترجلاً في هذا الصقيع القارس إلى أقرب تجمع تجاري متجاهلاً تحذيرات السلامة من السير في مثل هذا الطقس، حيث تجاوزت الحرارة أسفل الصفر المئوي بعشرين درجة على الأقل. يحوي هذا التجمع حانوت بقالة صغيرا ومحلاً لصنع القهوة والمخبوزات ومحطة وقود وفرع بنك لم يكن أيٌ منها يعمل ذلك الصباح. توقفت منصتاً لأحاديث الجموع المتجمهرة وأمارات الذهول تكسو ملامحهم.. جهاز السحب النقدي هذا لا يعمل أيضاً.. ولا توجد نقود في فرع البنك القريب.. مضخة الوقود لا تعمل. الهواتف الجوالة تعطلت، لقد سقطت كل التطبيقات جثة هامدة...
لم يتوقع أحد أن تتسارع الأمور بهذه الكيفية والحدة. لقد انتقلت الأزمة إلى كافة مناحي الحياة بسرعة البرق، توقفت حركة النقل تماماً مخلفة وراءها الملايين من البشر المشردين في الشوارع ومحطات القطارات والحافلات والمطارات والموانئ. الكل يحاول عبثاً الوصول لمنازلهم للاحتماء بجدرانها، لعلها تقيهم من قسوة ما يحدث بعيداً عن هذا الجنون الذي أصاب البشر كما أصاب كل شيء.
أدى انقطاع مصادر الطاقة والاتصالات إلى توقف معظم الأنظمة والخدمات. توالى التأثير كسقوط قطع دومينو مرصوصة واحدة تلو الأخرى. انقطاع التيار الكهربائي أدى إلى سلسلة من الكوارث لم تكن في مخيلة أحد من انعدام الاتصالات الهاتفية والإنترنت لتوقف الإشارات بالشوارع وشلل أنظمة البنوك وصرف الأموال وتبادل المصالح وشراء البضائع اللازمة لاستمرار الحياة. التأثير الأسوأطال دور رعاية المسنين والمستشفيات حيث توقفت الجراحات العاجلة وتعطلت حضانات الأطفال وأجهزة رعاية مرضى العناية المركزة. ولاختصار المشهد أصبحت المستشفيات تؤوي من الأحياء أقل بكثير مما تحوي من الأموات.
تأثر القطاع الغذائي تأثيراً مدمراً وسريعاً لم يخطر على بال أحد من توقف حركة نقل المنتجات الغذائية التي توقفت مصانعها، والحاصلات الزراعية التي فسدت بسبب توقف أساطيل النقل والتخزين، إلى تعذر شراء الأفراد للمواد الغذائية، نظراً لندرة النقود وتعطل النظام المصرفي وبطاقات الائتمان؛ وعليه تلفت المواد الغذائية بالمخازن والثلاجات والمتاجر المحرومة من الطاقة والاتصالات.الأمر الذي أدي الي حالات سرقات وتدافع بحثاً عما يسد الرمق ويروي العطش.
أما كارثة توقف محطات تحلية وضخ وتوزيع مياه الشرب النقية على الأحياء، فكان لها عظيم الأثر في انتشار الأوبئة والأمراض والروائح الكريهة في زمن قياسي، وحالات الجفاف خاصة بالنسبة لسكان المدن البعيدة عن ضفاف الأنهار.
شُلَّت ماكينة الإعلام المهولة الحجم والتأثير، توقفت كل أشكال بث الأخبار الفضائي المرئي والمسموع والمقروء، وتوقف تبادل المعلومات والخبرات تماماً وأصبحت الأخبار تتناقل في حدود مسيرة ساعة على الأكثر من موقع أي حدث. باختصار شديد.. انهارت منظومة الحضارة وتوقفت معظم سبل الحياة بعدحوالي48 ساعة - لا أكثر - من حدوث هذا العطب التكنولوجي الذي أصاب تقريبا كل شيء بسبب توقفت أجهزة الحاسبات عن العمل وتعطل وسائط الاتصالات. لا أحد يعلم متى أو كيف بدأ هذا الخلل، هل هو فيروس ذكي اخترق كل الخطوط الدفاعية لجميع أجهزة وبرامج وتطبيقات الحاسوب، أدى إلى توقف كل سبل الحياة المدنية الحديثة على سطح الكوكب؟ لا أحد يعرف شيئاً عن المنفذين أو الأهداف.كل ما نعيشه هو النتائج التي أعادت تفاصيل الحياة قروناً إلى الوراء، وأظهرت الجانب المخفي من طبيعة البشر.
سيناريو مرعب لكنه غير مستبعد تخيلته بعد إعادة قراءة مقال نشر منذ عدة أسابيع بعنوان «توازن الرعب الإليكترونيب والذي تنبأ كاتبه بإمكان حدوث هجمات إلكترونية من هذا النوع على بعض الدول، وقد تكون هذه أحد وسائل الحروب المقبلة.
نقلا عن الأهرام