جذور الصراع بين طوائف البوسنة
فاروق عطية
١٩:
١٠
ص +02:00 EET
الخميس ٢٢ يونيو ٢٠١٧
فاروق عطية
في الساعة الثانية والنصف بعد الظُهر، الثاني من مايو 2017 بدأت الطائرة في الهبوط التدريجي إلي مطار سراييفو الدولي. كأن منظر سراييفو من أعلي رائعا خاصة منظر البيوت المشيدة علي قمم الجبال المحيطة بالمدينة وهي متعانقة مع الأشجار الباسقة الخضراء. وصلنا يسلامة الله إلي عاصمة البوسنة، وبعد الانتهاء من إجراءات الوصول واستلامنا الحقائب، وكان في انتظارنا عديد من أقارب الأصدقاء الذين كنت أرافقهم. اسطحبونا في سياراتهم للذهاب لأول مدينة نزورها "مدينة لوكافاس". وقبل أن أصف لكم روعة الطريق من سراييفو إلي هذه المدينة أستميحكم عذرا لتقديم لمحة سريعة وإسقاط بقعة من الضوء علي تاريح البوسنة والهرسك القريب، حتي نقترب من جذور الصراع بين الطوائف.
في الساعة الثانية والنصف بعد الظُهر، الثاني من مايو 2017 بدأت الطائرة في الهبوط التدريجي إلي مطار سراييفو الدولي. كأن منظر سراييفو من أعلي رائعا خاصة منظر البيوت المشيدة علي قمم الجبال المحيطة بالمدينة وهي متعانقة مع الأشجار الباسقة الخضراء. وصلنا يسلامة الله إلي عاصمة البوسنة، وبعد الانتهاء من إجراءات الوصول واستلامنا الحقائب، وكان في انتظارنا عديد من أقارب الأصدقاء الذين كنت أرافقهم. اسطحبونا في سياراتهم للذهاب لأول مدينة نزورها "مدينة لوكافاس". وقبل أن أصف لكم روعة الطريق من سراييفو إلي هذه المدينة أستميحكم عذرا لتقديم لمحة سريعة وإسقاط بقعة من الضوء علي تاريح البوسنة والهرسك القريب، حتي نقترب من جذور الصراع بين الطوائف.
كما ذكرت بالمقال السابق أن منطقة البلقان خضعت للاستعمار العثماني منذ عام 1499م حتي عام 1877م حيث انتصر الصرب والروس في حربهم علي العثمانيون. وفي عام 1882م أُعلن قيام المملكة الصربية، بينما صارت مناطق كرواتيا، سلوفاكيا، البوسنة والهرسك تدريجيا تحت إمرة الإمبراطورية النمساوية ـ الهنجارية.
كان تأثير القرون الأربع لحكم العثمانيين بالغ الأثر على تركيبة سكان البوسنة، والتي تغيرت مرات عدة نتيجة للفتوحات العثمانية الجديدة وحروبها المتكررة مع قوى أوروبية، وللهجرات والأوبئة. أضحت الطائفة المسلمة من أكبر الطوائف العرقية والدينية، نتيجة للارتفاع التدريجي في عدد السلاف الذين أسلموا واستيطان القادمين من الإمبراطورية العثمانية. أواخر القرن الخامس عشر أتت أعداد كبيرة من اليهود السفرديون بعد طردهم من إسبانيا، كما شهدت الطوائف المسيحية البوسنية تغييرات كبيرة. فالبوسنيون الفرانسسكان (السكان الكثوليك بشكل عام) كانوا تحت حماية فرمان رسمي من الباب العالي، وطائفة أرثوذكس البوسنة التي كانت متقوقعة في الهرسك ودرينا، قد انتشروا في جميع أنحاء البلاد خلال تلك الحقبة وشهدوا بعض الازدهار حتى القرن التاسع عشر.
مع نمو الدولة العثمانية وتوسعها داخل أوروبا الوسطى، خفف ذلك من الضغط على البوسنة كولاية حدودية، وشهدت نموا وازدهارا لفترات طويلة وظهرت فيها مدن جديدة كسراييفو وموستار التي أضحت من كبريات المراكز التجارية والحضرية في المنطقة. شيد العديد من السلاطين والحكام المحليين الكثير من الأبنية المهمة (مثل جسر ستاري موست ومسجد غازی خسرو بیك). كما لعب العديد من البوسنيين أدوارا مؤثرة في الثقافة العثمانية وتاريخها السياسي خلال تلك الحقبة، وشكل الجنود البوسنيين جزءا كبيرا في التشكيلات العسكرية العثمانية في معاركها وكان لهم فيها نصر مؤزر، وارتقي العديد منهم في المراتب العسكرية ونالوا المناصب العليا في الدولة العثمانية كقواد الأساطيل وأمراء جيوش ووزراء.
أواخر القرن السابع عشر بدأت المشاكل تحاصر الجيوش العثمانية، وتقلصت حدود الإمبراطورية العثمانية بناء علي معاهدة كارلوفيتز سنة 1699 وصار سنجق البوسنة مقاطعة على الحدود الغربية للدولة. ثم شهدت المائة سنة التالية المزيد من الهزائم العسكرية، وتفشي الطاعون واندلاع الثورات داخل البوسنة. وحاول الباب العالي تحديث الدولة وتطويرها وقوبل ذلك بعداء شديد، حيث وقفت الأسر الاستقراطية في المنطقة حائلا دون حدوث ذلك خوفا من فقدان امتيازاتهم. حدث تمرد شهير سنة 1831م قاده حسين كراداسفيتش لكنه فشل، واستمر الوضع في التدهور. فاندلعت اضطرابات المزارعين التي أشعلت ثورة الهرسكيين سنة 1875م وسرعان ما تطور هذا النزاع لتدخّل العديد من دول البلقان والقوي العظمي، مما أجبر العثمانيين بالتنازل عن إدارة البلد إلي الإمبراطورية النمساوية الهنجارية بتوقيع معاهدة برلين سنة 1878م.
تفاهمت الحكومة النمساوية-الهنجارية وبسرعة مع البوسنيين، لكن التوترات في مناطق معينة من البلاد (وخاصة الهرسك) ظلت موجودة، ومع هذا فالبلاد وصلت إلى حالة من الاستقرار النسبي وبادرت السلطات النمساوية الهنحارية بإجراء عدد من الإصلاحات الاجتماعية الإدارية التي تهدف لجعل البوسنة والهرسك "مستعمرة نموذجية"، للمساعدة علي استقرارها السياسي ولوقف زيادة النعرة القومية السلافية الجنوبية. وقد فعلت حكومة هابسبورج الكثير لتدوين القوانين، ولإدخال ممارسات سياسية جديدة، وذلك لتحديث البلد. وعلي الرغم من هذا النجاح الاقتصادي، والسياسة النمساوية الهنجارية التي كانت تركز بالدعوة إلى المُثُل العليا للتعددية وبناء أمة بوسنية متعددة الطوائف (رغب بها المسلمون إلى حد كبير) لكنها فشلت في كبح جماح المد المتصاعد للقومية. وانتشر بالفعل مفهوم القومية الكرواتية والصربية بين مجتمعات الكاثوليك والأرثوذكس في البوسنة والهرسك بتحريض من كرواتيا وصربيا المجاورتين. في النصف الأخير من العقد الثاني كانت القومية عاملا لا يتجزأ من الحياة السياسية البوسنية، والأحزاب القومية منسجمة مع مجموعاتها العرقية الثلاث للهيمنة على الانتخابات.
وخلال تلك الفترة راجت بالمنطقة فكرة إقامة دولة موحدة للدول السلافية الجنوية تشمل البوسنة والهرسك. وكان لقرار الإمبراطورية النمساوية الهنجارية ضم إقليم البوسنة والهرسك لها رسميا في 1908 بالغ الأثر في زيادة هذا الشعور لدى القوميين، عارضت روسيا ضم البوسنة والهرسك لكن في نهاية المطاف أقرت روسيا السيادة النمساوية على البوسنة مقابل وعود من النمسا أنها ستعترف بحقوق روسيا في مضيق الدردنيل العثماني، لكن لم تفي الإمبراطورية النمساوية الهنجارية بوعودها في المفاوضات ولم يفعلوا شيئا للاعتراف بحقوق روسيا في المضائق. فيما بعد وقعت مملكة صربيا ومملكة بلغاريا بتشجيع من روسيا اتفاقية عسكرية للدفاع المشترك، ووقعت صربيا اتفاقا مماثلا مع مملكة الجبل الأسود كما فعلت بلغاريا ذات الأمر مع اليونان، وكان الحلف موجها ضد امبراطورية النمسا-هجاريا. وتوجت تلك التوترات السياسية يوم 28 يونيو 1914 عندما قام ناشط صربي اسمه جافريلو برنسب باغتيال ولي عهد العرش النمساوي الأرشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو، الأمر الذي أشعل شرارة الحرب العالمية الأولى حيث غزت النمسا صربيا لتتدخل روسيا وباقي القوى الأوروبية. علي الرغم من أن الكثير من البوسنيين ماتوا في الحروب وهم يخدمون في جيوش الدول المتحاربة، إلا أن جمهورية البوسنة والهرسك نفسها استطاعت النأي بنفسها والنجاة من الصراع. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي انضمت البوسنة والهرسك إلي مملكة صربيا وكرواتيا وسلوفينيا (سميت لاحقا بمملكة يوجوسلافيا)، اتسمت الحياة السياسية في البوسنة في ذلك الوقت باضطرابات اجتماعية واقتصادية خلال إعادة توزيع الثروة الاقتصادية، وتشكل العديد من الأحزاب السياسية التي كثيرا ما كانت تغير تحالفاتها مع الأطراف الأخرى في يوغوسلافيا، فالصراع الايديولوجي المهيمن على الدولة اليوغوسلافية ما بين الإقليمية الكرواتية والمركزية الصربية، قد اقترب وبشكل مختلف من المجموعات العرقية الرئيسبة في البوسىة. كان هناك أكثر من ثلاثة ملايين بوسني في يوغوسلافيا، تجاوز عدد السلوفينيين وأبناء الجبل الأسود معا، لكن المملكة الجديدة منعت وجود قومية بوسنية بينها. قسمت البلد إلي 33 أوبلاست لمحو تواجد القوميات الجغرافية التقليدية من الخريطة إلا أن جهود السياسيين البوسنيين مثل محمد سباهو للتأكد من أن المحافظات الست المقسمة للبوسنة والهرسك مساويا للسناجق الست من العهد العثماني وبالتالي يطابق الحدود التقليدية للبلد ككل.
استمرت التوترات الصربية الكرواتية بشأن هيكلة الدولة اليوغوسلافية، مع الاعتبار أن فكرة انفصال قسم البوسنة تبقى ضئيلة أو لا أهمية لها. ثم أتت اتفاقية سفاتكوفيتش- ماجاك والتي أنشئ بموجبها إقليم كرواتيا سنة 1939 والذي شجع على تقسيم البوسنة بين كرواتيا وصربيا. ثم تحولت أنظار السياسيين اليوغوسلاف إلى التهديد المتزايد الذي شكله أدولف هتلر ودولته ألمانيا النازية، وقد أتت فترة شهدت محاولات مهادنة، فتوقيع معاهدة الاتفاق الثلاثي، وبعدها بيومين حصل الانقلاب في يوجوسلافيا أطاح بمليكها مما حدا بالألمان غزوها في 26 أبريل 1941. ما إن غزا النازييون مملكة يوغوسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية حتى الحقت البوسنة إلى جمهورية كرواتيا المستقلة. وفي عام 1943م صار يوزيب بروز تيتو زعيما للمقاومة اليوجوسلافية التي تمكنت مع القوات السوفياتية من تحرير البلاد عام 1945م. بعد تحرير يوغسلافيا من الاحتلال الألمان، أُعلن في نفس العام قيام اتحاد الجمهوريات اليوغوسلافية الشعبية، وأصبح تيتو رئيسا للاتحاد الذي يضم كل من صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود وجمهورية مقدونيا. استمر تيتو رئيسا للاتحاد حتى مماته عام 1980م.