بقلم:يوسف سيدهم
تاريخ الحياة البرلمانية المصرية تاريخ عريق مشرف يعود إلي بدايات القرن التاسع عشر… شهد أنماطا مختلفة من أنظمة الحكم وأطوار متعاقبة من خرائط الحياة الحزبية والسياسية… كما تأرجح بين مراتب متباينة من الممارسة الديمقراطية والتمثيل النيابي, وكانت السمة الغالبة -بل والكاسحة- التي سادت ذلك التاريخ هي ترسيخ حرية الرأي واحترام حق الاختلاف ومقارعة الحجة بالحجة, فكانت هناك تحت قبة البرلمان لغة تتسم بمفردات بليغة عفة وقواعد نقاش راقية والتزام صارم بالتقاليد البرلمانية… كل ذلك في ظل رئاسات برلمانية قديرة كانت بمثابة قائد أوركسترا وضابط إيقاع وصمام أمان حافظت علي وقار الحياة البرلمانية وأرست تقاليد محترمة ربطت النواب المنتخبين بالناخبين.
أسجل ما سبق بينما تعتصرني مشاعر الأسي والحسرة والإحباط علي ما آلت إليه حياتنا البرلمانية في أيامنا هذه… ولست بالضرورة أشير إلي المأساة التي نعيشها مؤخرا في ظل مناقشة مجلس النواب لاتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية, فالحقيقة أن مسار الأداء البرلماني منذ بدء انعقاد مجلس النواب الحالي منذ نحو عامين لا يتواءم إطلاقا مع شرف وعراقة تاريخ الحياة البرلمانية المصرية, لكني أمسكت قلمي مرات ومرات عن التعرض له أملا في انضباط الأداء ونضج التجربة, حتي جاءت الحلقة الأخيرة لمناقشات اتفاقية ترسيم الحدود بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير!!!
كنت أعد نفسي لما اعتقدت أنه سيكون وجبة شهية لنظر مجلس النواب اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية المحالة إليه من الحكومة, لأن ما اكتنفها طوال عام مضي من لغط وشد وجذب وانفلات وتطاول واتهام وتخوين بفضل اختطافها إعلاميا ترك حيرة وانقساما في الشارع, لكن الكارثة أنها حيرة وانقسام نتيجة عدم وضوح الرؤية وفقدان الموضوعية والاندفاع إلي الصراخ والتحريض دون قرائن أو أدلة أو براهين, لذلك تركت الساحة خالية من العارفين والمتخصصين الذين نأوا بأنفسهم بعيدا عن ذلك العبث, ولعلهم آثروا انتظار فحص البرلمان للاتفاقية ليدلوا بدلوهم في مكان افترضوا فيه الرغبة الصادقة للفحص والتمحيص بغية الوصول للحقيقة واتخاذ القرار.
ولكن يا لهول ما حدث في اجتماعات لجنة الشئون التشريعية, ويا للأسف علي ما سادها من مواقف سياسية مسبقة ونوايا عدائية مبيتة لاغتيال الرأي والرأي الآخر, ويا للفضائح البرلمانية التي تابعها الإعلام والرأي العام- محليا وعالميا- من انفلات وصراخ ومقاطعة وشد وجذب وتلويح وتهديد وسباب وتشابك بالأيدي… كل هذا وسط محاولات يائسة تائهة لعرض ومناقشة الوثائق وآراء الخبراء والمتخصصين الذين فشلوا حتي في استكمال ما جاءوا لعرضه بفضل ما تعرضوا له من مقاطعة وإهانة وتخوين وسب.
تاهت الحقيقة وتنحت المناقشات الجادة والدراسات المتأنية أمام الصراخ والتشنج والعنف… كل ذلك في ظل تقاعس عجيب من جانب رئيس مجلس النواب -الذي رأس تلك الجلسات لأهميتها- عن ضبط الانفلات بل وتأجيجه الصراخ والتشنج… وأقول بكل أسي وألم: مهما كانت نتيجة نظر البرلمان لاتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية سيظل هذا السيناريو الكئيب سبة في التاريخ العريق للحياة البرلمانية المصرية ومثال بائس للممارسة الديمقراطية.