الأقباط متحدون - لوكافاس والحرب اليوجوسلافية
  • ٠٩:٢٤
  • الخميس , ٦ يوليو ٢٠١٧
English version

لوكافاس والحرب اليوجوسلافية

فاروق عطية

مساحة رأي

٥١: ٠٤ م +02:00 EET

الخميس ٦ يوليو ٢٠١٧

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية
فاروق عطية
   في الساعة الثانية والنصف بعد الظُهر، الثاني من مايو 2017 بدأت الطائرة في الهبوط التدريجي إلي مطار سراييفو الدولي. كأن منظر سراييفو من أعلي رائعا خاصة منظر البيوت المشيدة علي قمم الجبال المحيطة بالمدينة وهي متعانقة مع الأشجار الباسقة الخضراء. وصلنا يسلامة الله إلي عاصمة البوسنة، وبعد الانتهاء من إجراءات الوصول واستلام الحقائب التي لم تستفرق وقتا طويلا كما كنت أتصور، كان في انتظارنا عديد من أقارب الأصدقاء الذين كنت أرافقهم. كان أول ما لفت نظري عند الخروج من المطار البانوراما الرائعة لمنظر الجبال التي تحيط بالعاصمة من كل جانب، ولكن ما شوه الصورة بعض الشيئ رؤية أرضية الطريق العام من المطار إلي الهاي واي، للأسف كان الطريق مليئ بالحفر مما يعطي صورة واضحة للإهمال في الصيانة أو للفقر وعدم وجود الإمكانيات المتاحة. ركبنا سيارات الأصدقاء الذين كانوا في استقبالنا وانطلقنا إلي مديبة لوكافاس، أول مدينة بوسنية نزورها.
 
   عكس حالة الطريق عند مخرج المطار وما به من سوء، كان الهاي واي طريق رائع معبد جيدا كأنه بساط أسود ناعم يحيط به الخضرة والأشجار الجميلة من كل جهة ولكنها لا تحجب رؤية الجبال وما حولها وفوق قممها من منازل جميلة متناسقة الألوان بين الأصفر الفاتح متدرجا حتي اللون البني بجميع درجاته وأسطحها المغطاة بالشنجل الأحمر، واحتوائها علي التراسات المزخرفة الجميلة. الطريق إلي لوكافاس طويل مليئ بالانحنائات صعودا وهبوطا، انحناءات زجزاجية بزوايا حادة خطيرة. والطريق مجرد حارتين لكل واحدة اتجاه معاكس. ورغم هذه الانحناءات الحادة والحارة الواحدة لكل اتجاه تلاحظ مدي مهارة السائقين علي الطريق واحترامهم لآدابة والانضباط والاحترام التام لقواعد المرور وإشاراته. يمر الطريق من سراييفو حتي لوكافاس بستة أنفاق داخل الجبال، بعضها طوله عشرات من الأمتار وبعضها بضع كيلومترات. أنفاق مضاءة من الداخل، بعضها مزدوج الاتجاه وبعضها مفرد الاتجاه (نفقين متجاورين). يكون الطريق أحيانا بين جبلين وأحيانا يمر مجاورا لجبل ويشرف علي هوة تحتها واد سحيق. والسرعة علي الطريق لا تتجاوز الـ 60 كم/ ساعة وتنخفض إلي 30 كم/ ساعة أو أقل عند المنحنيات وداخل الأنفاق. وصلنا إلي لوكافاس مرورا بالعديد من المدن والقري البوسنية بعد ثلاث ساعات من السفر الممتع والمريح. يقع منزل صديقنا نرمين الذي استضافنا خارج المدينة أو بمعني أدق بقرية علي أطرافها تسمي ديليتشي بيتوك، ويحيط بهذه القرية الحقول من ناحية والأحراش من ناحية أخري، وتتصل بمدينة لوكافاس بطريق يسمي رودنيشكا يوليكا.
 
   وتقع مدينة لوكافاس في الشمال الشرقي للبوسنة والهرسك. مساحتها حوالي 353 كيلومتر مربع. عدد سكانها لا يتعدي الستين ألف مواطن، يشكّل البوسنيون (المسلمون) أغلبية سكانها 66.7 %، والبوسنيون الصرب (أرثوذكس) 21.5 %، والبوسنيون الكروات (كاثوليك) 3.8 %، وآخرون 8.0 %. بها صناعات كيميائية أهمها مصنع صودا لوكافاس وهو فرع من مجموعة سيزكام التركية، ومصنع أسمنت لوكافاس.
 
   في اليوم التالي بعد النوم والراحة من وعثاء السفر، توجهنا للمدينة للتعرف علي معالمها ولتغيير بعض الدولارات الكندية إلي العملة البوسناوية التي تسمي كونفيرتيبلينا ماركا وللاختصار (ك إم)، والدولار الكندي يتراوح سعره بين 1.17 و 1.20 ك إم حسب معطيات سوق العملة. دلفنا إلي البنك الذي يعمل به صديقنا نرمين حارسا، وأضحكني إسم البنك كثيرا حيث كان إسمه أدّيكو بنك، لأنني أعلم أن البنوك تأخذ ولا تعطي، وسهّل لنا نرمين تغيير الدولارات بسرعة. تجولنا داخل المدينة وكانت ملاحظاتي كالآتي: معظم بنايات المدينة بلوكات قميئة قديمة لا يزيد ارتفاعها عن ثلاث أدوار وتفتقر إلي اللمسة الجمالية ولإعادة الطلاء، ذكرتني بالمساكن الشعبية القميئة المنتشرة بالمدن المصرية، وأعتقد أنها بنيت إبان الحكم التيتاوي الشيوعي. الطرقات والشوارع عبارة عن دروب ضيقة تفتقر للتعبيد، بها الكثير من الحفر والمطبات. يوجد حول البلوكات مساحات خضراء أعشابها طويلة متناثرة تحتاج للعناية والتقليم. يوجد الكثير من المولات أشهرها مول صيني يسمي بنجو مول. محلات بيع الأدوات المنزلية والملابس والمصنوعات كثيرة أشهرها محلات كونزيوم المنتشرة في جميع الأحياء والمدن البوسناوية وهي شبيهة بمحلات بيع المصنوعات المصرية. يوجد بالمدينة العديد من الجوامع (المساجد) ذات المئذة الشبيهة بالقلم الرصاص لها تراس دائري واحد فقط، والكنائس الأورثذكسية والكاثوليكية ممثلة للطوائف الثلاث المكونة للنسيج البوسناوي. يوجد أسفل البلوكات العديد من المطاعم النظيفة جيدة الأطعمة، وأشهر ما يقدم بالمطاعم الشبابتش (شبيه بالكفتة) أصابع متساوية الطول والسمك (5 سنتيمترات طولا و2 سنتيمتر سمكا)، والبوريك (جلاش محشو باللحم) وأسعار المأكولات رخيصة الوجبة لا تكلف أكثر من 6 ك إم للفرد.
 
   تجولنا داخل سوق المدينة الشهير (سوق البراغيث) الذي يباع به كل شيئ، لحوم مصنعة كالبسطرمة والسجق والشبابتش، وملابس حريمي ورجالي وللأطفال داخلية وخارجية جيدة الصنع ورخيصة الثمن، ومصنوعات جلدية يدوية، ساعات ومنبهات وولاعات صينية الصنع، (معظم ما بالسوق صناعة تركية)، وأنواع عديدة من التوباكو الرخيص المجلوب من تركيا لزوم لف السجائر (لارتفاع ثمن السجائر المعلبة). في الجهة المقابلة لسوق البراغيث حديقة جميلة ذات زهور وأشجار مورقة أسفلها مقاعد خشبية، ذهبت إليها للراحة من عناء التجوال بالسوق واتقاء لأشعة الشمس الحارقة. في وسط الحديقة تمثال شاهق الارتفاع لسيدة مكتوب أسفل التمثال إسمها وتاريخها (ماريا ماسان) وسميت الحديقة أيضا بإسمها (حديقة ماريا ماسان)، أقيم هذا التمثال تخليدا لإسمها لما قامت به من بطولة في الحرب العالمية الثانية.
 
   تقابلت بالصدفة مع رجل مُسِنّ بحديقة ماريا ماسان إسمه سافو ماديتش، تجاذبنا أطراف الحديث وكان يجيد الإنجليزية، قال لي أنه أرثذوكسي صربي لكنه يعيش هنا في لوكافاس منذ 1946 ويعرف كل شيئ فيها وعنها وعاصر الأحداث المؤسفة التي حدثت في البوسنة، قال أنه كان يعمل مدرسا للرياضيات والفيزياء بمدرسة لوكافاس الثانوية والآن علي المعاش. انتهزتها فرصة لأعرف منه خفايا الصراع الذي دار حربا بين الصرب وصرب البوسنة ضد أهل البوسنة من المسلمين، وحتي أجعله يتحدث في أمان أخبرته أنني مصري أرثوذكسي أمارس العمل الصحفي وباحث عن الحقيقة، تركته يتحدث دون مقاطعة قال: أنا مسيحي أورثوذكسي ومتزوج من سيدة مسلمة، ولي ثلاث أبناء ذكور أرثوذوكس مثلي، إثنين منهم متزوجان من مسلمتين، والثالث متزوج من كاثوليكية، كنا نعيش أيام تيتو رغم الشيوعية عيشة محية وصداقة بين الطوائف الثلاث لا مشاحنات ولا مخاصمات بيننا، نتحاب ونتنزاوج من بعضنا البعض دون غضاضة، وعندما توفي تيتو بدأت المشكلات، وظهرت أطماع صربيا للاستيلاء علي السلطة، بدأت بطرد المسلمين والكاثوليك من الجيش واعتبرت جيش يوجوسلافيا الذي كان يتشكل من جميع أبناء يوجوسلافيا جيشا صربيا صرفا وأصروا علي تسميته بجيش يوجوسلافيا. وبعد أن أعلنت كلا من كرواتيا وسلوفينيا وجمهورية مقدونيا استقلالها عام 1991م، بدأت بذلك الحروب اليوجوسلافية  لاسترجاع الجمهوريات المنفصلة بين الجيش اليوجوسلافي الاتحادي (الصرب) وبين الجمهوريات المنفصلة. في عام 1992 أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها عن الاتحاد مما أدخلها في حرب أهلية مع جيش الاتحاد، استطاع قادة صربيا استمالة أهل البوسنة ذو الأصول الصربية (الأرثوذكس) للانضمام معهم ضد البوسنيين. ظل البوسنيون الكروات (الكاثوليك) علي الحياد لفترة، ثم تخلوا عن حيادهم بتحريض من كرواتيا طمعا في تقسيم البوسنة بين صربيا وكرواتيا، وجابه البوسنيون الحرب من الصرب والبوسنيين الصرب من ناحية ومن الكروات والبوسنيين الكروات من ناحية أخري. في عام 1992 أُنشئت محكمة مجرمي حرب يوجوسلافيا في لاهاي، أنتهت الحرب مع توقيع اتفاقية دايتون للسلام عام 1995م ونشر قوات دولية في البوسنة. 
 
   سألته: ما موقفك الشخصي وما موقف الكنيستين من ذلك؟ أجاب: موقفي الشخصي كان الرفض التام للانضمام لصربيا رغم أنني صربي أرثوذكسي وكان نتيجة ذلك القبض علي وتعذيبي بدعوي أنني متزوج مسلمة وإثنين من أبنائي متزوجان من مسلمتين وخرجت من محبسي عن طريق الأمم المتحدة. أما موقف كلا الكنيستين الأرثزذكسية والكاثوليكية فقد كان مخزيا، تناست الكنيستان وصايا الرب بمحبة أعدائنا والصلاة من أجلهم وانقادتا لساسة وطنيهما واعتبار موقفهما موقفا وطنيا.
 
   هل فعلا كان موقف الكنيستين مخزيا كما قال أخونا سافو ؟... إنتظروني والمقال القادم في العدد القادم بإذن الله.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع