طوال تاريخها، اتسمت الدولة المصرية بالمركزية الشديدة، وكانت الأقاليم تُحكم من المركز، إلا فترات محددة فى تاريخ مصر القديم، اتحدت فيها أقاليم المركز وانقسمت الدولة، وحتى عندما أصيبت الدولة المصرية بالوهن فى مقاييس القدرة شاملة وباتت مطمعاً لدول الجوار وقبائلها، ظلت فى الداخل دولة مركزية قبضتها على مواطنيها شديدة، وكذلك قبضة المستعمر أو المحتل، نظراً لتوظيفه أدوات وآليات الدولة المصرية. وخضعت مصر لاحتلال متوالٍ لأكثر من ألفى عام، واعتباراً من عام ١٩٥٢ بدأ المصريون فى حكم أنفسهم، وكان السؤال: هل ينبغى أن تكون الدولة المصرية ديمقراطية أم تكون دولة قوية، بصرف النظر عن طبيعة نظام الحكم، وبعد مساجلات واحتكاكات انتهى الأمر بانتصار أنصار الدولة المركزية القوية على حساب دعاة استمرار التجربة الديمقراطية التى استمرت من ١٩٢٣ وحتى ١٩٥٢، وقام الجناح المنتصر (جناح عبدالناصر) بتحطيم كل مرتكزات وأسس الحكم شبه الديمقراطى فى الحقبة شبه الليبرالية، وخرج الجناح المقابل (جناح محمد نجيب) من السلطة تماماً، وزج به فى السجون.
قاد «عبدالناصر» موجة القومية العربية، وتبنّى قضاياها، وبدأ فى الخروج خارج قواعد اللعبة الدولية من خلال تأميم قناة السويس، فكان العدوان الثلاثى واحتلال سيناء، زج بقواتنا المسلحة فى أتون حرب اليمن، أى أنه أرسل قواته إلى خارج الحدود دون التنسيق مع القوى الكبرى، أو قوة واحدة كبرى على الأقل، وهو سلوك لا تمارسه إلا القوى الكبرى فقط، فكانت مصيدة لقواتنا المسلحة ووقع عبدالناصر فى الفخ السورى، فقام بإغلاق مضيق تيران فى وجه الملاحة الإسرائيلية، فكان عدوان يونيو ١٩٦٧، والهزيمة التى أنهت طموح «عبدالناصر»، وكسرت مشروعه العربى، وأضعفت الدولة المصرية كثيراً، ولا نبالغ إذا قلنا إن هزيمة يونيو ١٩٦٧ هى السبب الجوهرى فى ما عانته مصر وتعانيه حتى اليوم.
انتهى الحديث عن المفاضلة بين الدولة القوية والدولة الديمقراطية أو دولة القانون على الأقل، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وجاء «السادات» ليجهز على بقايا دولة القانون عبر تغيير الدستور ووضع المادة الثانية، ثم تديين المجال العام، واستخدام الدين فى خدمة السياسة، فحدث الشرخ التاريخى فى مصر، صحيح الشرخ موجود طوال التاريخ، لكن الصحيح أيضاً أنه اتسع كثيراً بعد ١٩٥٢ بفعل سياسات ربما لم تكن وراءها أبعاد طائفية، لكن مع مطلع السبعينات ولعبة «السادات» مع السعودية والجماعة، ثم لعبته مع المخابرات المركزية الأمريكية، بالاتفاق مع السعودية وباكستان، لتشكيل جماعة المجاهدين التى سوف تقاتل السوفييت فى أفغانستان من منطلق دينى، تعمّق الشرخ ووضع البلاد فى نهاية السبعينات على شفا الانفجار. قتل «السادات» وجاء «مبارك» واستمرت اللعبة نفسها وإن حدث تغيير بسيط، وهو أن أجهزة «مبارك» الأمنية بدأت فى لعبة «القط والفأر» مع الجماعة، أى تتصل بها وتتواصل معها، تمنحها قدراً من المكاسب وعندما تطمع فى المزيد، توجه إليها رسائل تحذيرية ثم ضربات غير حاسمة، فنظام «مبارك» كان فى حاجة إلى الجماعة حتى يقول للغرب إن ضغوطهم عليه لمزيد من الانفتاح الديمقراطى فى مصر، سوف يأتى بالجماعة إلى السلطة، وهى جماعة متطرّفة تكره الغرب وإسرائيل. واستمر الأمر إلى أن تواصلت الجماعة مع الغرب وطمأنتهم على مصالحهم وعلى أمن إسرائيل واستقرارها، فكان قرار بيع «مبارك» أمريكياً وأوروبياً.
وللحديث بقية
مقلا عن الوطن