بقلم: محيي الدين إبراهيم
بثورة 25 يناير نالت الجماعات الدينية في مصر حريتها كاملة، بل وحرية تحقيق طموحها السياسي والحزبي والوطني، وأصبحت بين عشية وضحاها من محظورة لمشروعة، بل أنه يمكننا الجزم بأن 25 يناير 2011 هو العصر الذهبي للجماعات الإسلامية في مصر ومن ثم في الوطن العربي والشرق وربما من بعدهما في العالم أجمع.

نحن لسنا ضد أن يخدم مصر أي من أبنائها الشرفاء مهما كانت انتماءتهم العقائدية، فالوطن لا يسأل الفلاح عن ديانته قبل أن يغرس في أعماقه  شتله، ولا يضير ماكينة الإنتاج أن كان القائم عليها مؤمن أو غير ذلك، لأن الوطن لا يعرف سوى كونه واحداً بجهد أبنائه وكفاحهم أو صفراً بتناحرهم وتشتتهم ومن ثم فنحن لا نعلم أن كان هذا التاريخ - 25 يناير - سيكون بداية فتح لعهد يتولى فيه أمراء ومرشدي الجماعات الدينية الحكم العادل في البلاد على أسس وطنية أم أنه سيكون بداية لصراعهم المذهبي حول تفعيل مسائلهم الفقهية المختلف عليها فيما بينهم لمحاولة تطبيقها وفرضها على الفعل السياسي من تحت قبة البرلمان؟، أو كصراع دون كيشوت ضد طواحين الهواء يستنزف قوى الوطن والمستقبل دون عائد كما كان يتصارع أمراء المماليك واستنزفوا بصراعهم طيلة أربعة قرون قوى الوطن ومستقبله!.

لا يجوز لنا أن نغض البصر عن مسألة هامة وهي أن دخول أي جماعة دينية بوابة السياسة لممارسة دور سياسي يعني في المقام الأول أن رؤيتهم الدينية والمذهبية للأمور العامة والخاصة هي صلب أجندتهم السياسية وإلا ما جدوى أن يمارسوا السياسة من أصله إن لم يكن لهم هدفا دينيا يؤمنون به ويريدون تفعيله سياسيا ( دنيوياً ) عن طريق صناديق الاقتراع وبصيص الديمقراطية التي ربما تتمتع به أو ستتمتع به دولة ما بعد الثورة.

تركيا هي أول بلد استشعرت واقع الحال في مصر بعد الثورة مباشرة واستشعرت معه – بحسب خبرتها السياسودينية أن جاز لي إطلاق هذا التعبير –استشعرت سيناريوهات الواقع وملامح المستقبل لتلك الجماعات الدينية التي تحررت من المعتقلات بعد الثورة وتريد المشاركة السياسية وممارسة العمل السياسي في مصر بجانب ممارستها للعمل الديني والدعوي، وعلى رأس هذه الجماعات في مصر جماعة الإخوان المسلمون، فحزب العدالة والتنمية التركي هو حزب غالب مؤسسيه وأعضاءه لهم مرجعية دينية تقترب في منهجها من مرجعية أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وهو حزب قائم على أنقاض حزب الرفاة لزعيمه نجم الدين اربكان، وحزب الرفاة تم تأسيسه سياسيا في ظروف كانت تتطلع فيه تركيا – ومازالت - لأن تُظهر أمام العالم سلوكا ديمقراطياً على النسق الغربي طمعا في رغبة انضمامها لأوروبا، ولهذا ظهر الرفاة بموافقة النظام وقتذاك كدليل على هذه المظاهر الديمقراطية التي كانت بمثابة نقلة ( ثورية ) على المنهج الأتاتوركي ( الكلاسيكي ) للدولة وبداية سطوع شمس العصر الذهبي للجماعات الدينية في تركيا ومشاركتها الفعلية في العملية السياسية هناك حتى رغم أنف الجيش التركي الذي يحكم تركيا من خلف كواليس السياسة بقبضة علمانية من حديد، ولكن وتحت حكمة أن بداية تعلم السير على الأقدام تتخلله الأخطاء التي تؤدي للسقوط فقد سقط الرفاة وتم حرمان اربكان من العمل السياسي حتى مات رغم عطاءه الوطني ورغم أنه يعتبر أبو الاقتصاد التركي الحديث.

أدى سقوط اربكان وسقوط حزبه إلى إعادة ترتيب الأوراق، ومعروف أن أي جماعة دينية في العالم لا تيأس من السقوط أو الهزيمة لكونها محددة الهدف ومؤمنة بقيمة لا تخطئها القلوب ولا تعرف الضمائر فيها معنى الانهزام، وحيث شتان مابين الهزيمة والانهزام، وعليه فإنها تخمد لفترة ثم تعاود الظهور بقوه بعد الخمود – وربما بعد الاعتقال والنفي والتعذيب - مستفيدة من كل أخطاء الماضي التي تحولها لمكاسب لا تعجزها الصراعات، وليظهر من صلب الصراع حزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الله جول تلميذ اربكان النجيب وكاتم أسراره والأقرب له في المثل من قرب فتى موسى لمعلمه النبي.

يبدو أن تركيا ( العدالة والتنمية ) لا يريد للأحزاب المشابهة  له في مصر أن تقع  في نفس خطأ حزب الرفاة التركي حينما قام، وربما – في تقديري - من هذه الزاوية  تحديداً كانت زيارة عبد الله جول السريعة لمصر رغم وفاة أستاذه ومعلمه اربكان والذي لم تمر على وفاته 36 ساعة على أقصى تقدير حين جاء القاهرة ليقابل في مبنى السفارة التركية بمصر كل رموز الجماعة، مقابلة رسمية ودبلوماسية.

اختارت إذن الجماعات الدينية في مصر النموذج التركي في العمل السياسي، واختارت معه في أول خروج رسمي لها في مهمة خارج مصر أن تذهب لتركيا لتقديم واجب العزاء في وفاة نجم الدين اربكان زعيم حزب الرفاة، و ربما لا يخلو الأمر أثناء تقديم واجب العزاء من طلب بصيص من النصح وبعض ملامح من مشورة، فهل سيحكم الجيش المصري مصر من خلف كواليس السياسة بقبضة من حديد كما في النموذج التركي، وتكون الأحزاب واجهة مدنية للحكم وتصريف شئون المجتمع، أم أن الوضع سينقلب ليتحول إلى ما يشبه حكم الفقيه في إيران؟ ضبابية السيناريو تجعلنا لا نرجح كفة على أخرى لكون الفعل السياسي مازال في طور التكوين ولكن وبالرغم من عدم القدرة على التكهن ( بجلاء) في تحديد ماهية ما سيؤول له الأمر إلا أنه لا يساورنا شك في أن السيناريو – على هذه الصورة مما نراه اليوم من أوضاع داخل المشهد السياسي المصري - لن يخرج عن مسألتين، حكم الجيش من وراء الكواليس وبقاء الأحزاب ذات المرجعيات الدينية على واجهة العمل السياسي، أو الحكم بمنهج ولاية الفقيه.

الغاضبون إذن في ميدان التحرير وماسبيرو قد اختاروا الشارع، أما الغاضبون ممن خرجوا من ظلمات المعتقل والنفي والتعذيب فقد اختاروا البرلمان، واعتقد أنه يظهر بجلاء مدى فرق العقول في إدارة دفة الغضب عند الطرفين والذي أرى انه كالفرق بين الحالم واليقظ، أو ربما كالفرق بين المتخلف والعبقري.
حزب الوسط، وجماعة الإخوان المسلمون، والجماعة الإسلامية، والسلفيون، والصوفيون، وأخيرا وليس آخراً السيد عبود الزمر الذي أعلن في أول ظهور أعلامي له بإنشاء حزب سياسي يترأس هو قيادته ويكون حزبا لكل المصريين، والسؤال هنا أمام كل هذه الأحزاب ذات المرجعيات الدينية أو القائمة على كيانات دينية ما هي الفروق السياسية التي ستجعل كل منها مختلفا عن الآخر؟ وهل سيكون الاختلاف في صالح الرؤية الفقهية للقائمين على الحزب أم في صالح مصر والسياسة بشكل عام؟ بلا شك ستكون الفروق بينهم هي ذات الفروق الفقهية والمذهبية التي تجعل كل منهم مختلف عن الآخر وإلا لكانوا ببساطة اتفقوا سياسيا فيما بينهم وانضموا جميعا تحت لواء حزب سياسي واحد يضمهم في خدمة مصر بعيدا عن مناهج الأحزاب الأخرى ذات المرجعيات اليسارية ( التجمع ) أو الليبرالية ( الوفد ) أو الناصرية ( العربي ) أو .. إلخ، والتي تتعارض مع ما يؤمنون به من منهج، بل أننا نتساءل أيضا عن لماذا يصر الأخوان المسلمون على سبيل المثال في إنشاء حزب خاص (العدالة و الحرية ) – ولنلاحظ قرب المسمى من حزب العدالة والتنمية التركي – أقول إنشاء حزب سياسي رغم أن حزب الوسط لأبو العلا ماضي غالب مؤسسيه من الإخوان! أي يحملون نفس المنهج!، ما هو الفرق بين حزب يؤسسه إخوان مسلمون وحزب آخر يؤسسه أيضا إخوان مسلمون؟ .. لا يمكن أن يكون الفرق فقط في مجرد الاسم؟ .. وهنا يكمن سؤال آخر وهو هل ينقسم الأخوان على بعضهم في التوجه السياسي ومن ثم ففريق منهم يجنح لحزب كحزب الوسط والآخر يميل لحزب كحزب العدالة والحرية ؟ وما هو التوجه السياسي الذي يختلف عليه كلا الطرفين رغم أنهما يحملان نفس المنهج ؟ أم أنها ( هوجة ) إنشاء الأحزاب؟.. مسألة عجيبة فعلاً!

معلوم أن الأحزاب السياسية تقوم على مبدأ خدمة الدولة، ومن ثم فكل الأحزاب في العالم تقبل عضوية المنتمين إليها على أساس وطني وليس على أساس ديني، هذه هي لعبة السياسة في كل بلدان العالم مع استثناء بسيط لا يتسع المجال هنا لنقده وتحليله، ومن ثم يبرز التساؤل في هل ستقبل الأحزاب المصرية ( الحديثة ) القائمة على كيانات دينية ( سنية ) عضوية مصري ( شيعي ) مهما كان إخلاصه وانتمائه الوطني؟ أو عضوية مصري بهائي، أو عضوية مصري قبطي؟ أو كاثوليكي؟، وهل سيقبل أصحاب الأحزاب القائمة على كيانات دينية ( سنية ) أن يتم إنشاء أحزاب سياسية أخرى يكون أعضاءها من ذوي المرجعيات والخلفيات  الشيعية أو البهائية أو البروتستانتية؟؟! إنها بالفعل مسألة في غاية التعقيد.

ومن هنا كانت القوانين الوطنية ملتزمة بعدم إنشاء حزب يكون مؤسسيه أو أعضاءه من أصحاب منهج محدد يقوم على ايدولوجية معينة من شأنها إحداث خلل داخل المجتمع حتى ولو كانت ايدولوجية هؤلاء الناس لاعلاقة لها بالدين، كما نرى في أميركا على سبيل المثال رفضهم لتكوين حزب للشواذ أو حزب لطائفة "المورمن" لأن ذلك من شأنه تفكيك المجتمع لشيع وطوائف تبدأ حراكها حينما تبدأ بأحزاب سياسية لا تلبث أن تتحول لأحزاب طائفية ينتصر القائمين عليها لفئة على فئة من أبناء الوطن الواحد وتتحول ( بشكل آلي وحتمي ) من عراك سن قوانين تحت قبة البرلمان لمعارك ميليشيات مسلحة في القرى والمدن، ونعود بها لعصور القرون الوسطى.

نحن نريد الإجابة على هذا السؤال: هل مستقبل مصر السياسي والإقليمي والدولي سيكون مرهونا بطائفية البرلمان أم مرهونا بوطنيته وانتماء كل المستظلين تحته بدستور البلاد وانتمائهم لمصر؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القليلة المقبلة ونريد منهم أيضاً الإجابة عليه.