في الدولة المدنية: سلعة جديدة تنضم لقائمة الوجبات السريعة!!!
يوسف سيدهم
الجمعة ٤ اغسطس ٢٠١٧
بقلم: يوسف سيدهم
قراءة في ملف الأمور المسكوت عنها (645)
خرجت السيدة المصرية مسرعة من الجهة التي تعمل بها بعد انتهاء يوم العمل وهي منهكة من أعباء اليوم مهمومة بالعودة إلي المنزل لاستئناف المشاق التي تنتظرها لخدمة الأسرة والأولاد واحتياجات البيت… أسرعت إلي محطة مترو الأنفاق الذي بات أيسر وأسرع وسيلة مواصلات تنقل الملايين دون تعذيبهم في تكدس وشلل وسائل المواصلات السطحية في الطرق… وما أن نزلت إلي محطة المترو حتي وصل إلي سمعها نداء في ميكروفون المحطة ينبئ الجمهور بأن هناك تأخيرا في وصول القطارات يقدر بنحو عشر دقائق نتيجة كثافة الحركة… السيدة أصابها الإحباط وأخذت تراجع جدول المهام المنزلية التي تنتظرها وتتجول بعينيها حولها بلا هدي أو مقصد حتي اصطدمت عيناها بلافتة تراها لأول مرة معلقة علي كشك موضوع في المحطة وتسمرت تقرأ: لجان الفتوي لخدمة المواطنين- مجمع البحوث الإسلامية… وتعجبت ما الذي جاء بهذا الكشك في محطة المترو؟… لكنها بعد برهة قفز إلي ذهنها خاطر أن تستغل فترة الانتظار المفروضة عليها في أن تذهب إلي الكشك لتسأل عن أمر يشغلها كامرأة حتي تعرف رأي الدين فيه, ورددت في داخلها: لعل هذه الخدمة تغنيني عن ضياع الوقت في الذهاب إلي المسجد وتقدم لي الفتوي الجاهزة السريعة دون عناء… وذهبت السيدة إلي الكشك وحصلت علي مرادها وخرجت سعيدة وعادت إلي بيتها تحكي لأسرتها ولجيرانها كيف وفرت الدولة خدمة سريعة لإرشاد المواطنين وتقويم سلوكهم… لكن سألها ابنها الصغير بتلقائية بريئة: محطات المترو يرتادها المسيحيون مثل المسلمين, فهل وضعوا كشكا به قسيس لهداية المسيحيين وتعريفهم بأمور دينهم؟ فقالت ماما: لم أر كشكا مماثلا للمسيحيين, ولعلهم في مرفق المترو يرتبون لتوفيره أسوة بنا نحن المسلمين!!!
هذا الخاطر المضحك المبكي دار بيني وبين نفسي عقب الإعلان عن وضع أكشاك للفتوي تابعة لمجمع البحوث الإسلامية في محطات مترو الأنفاق… وأرجو ألا يعتقد أحد أني ألمح إلي مساواة المصريين المسيحيين في هذا العبث لأن ذلك سيكون كارثة بحق, بل أنه ينبئ بتفجير خلافات وصراعات وتأجيج فرقة بين المصريين لا أحد يدرك مدي خطورتها… وقبل أن أسترسل دعوني أعرض فحوي الرسالة التي وصلتني من الأستاذ هاني صبري المحامي من الفشن- بني سويف- بعنوان أكشاك لجان الفتوي في المترو ويقول فيها:
قرار إنشاء أكشاك لجان الفتوي التابعة لمجمع البحوث الإسلامية داخل محطات مترو الأنفاق ليس تجديدا للخطاب الديني بل هو تعطيل حسن سير المرفق العام. وهناك قواعد قانونية تحكم سير المرافق العامة ونشاطها من أجل تحقيق أهدافها التي وجدت من أجلها وهي دوام سيرها بانتظام وتأدية الخدمة لجمهور المنتفعين دون اضطراب أو انقطاع واحترام مبدأ المساواة بينهم. ولا يجوز للمرفق العام أن يقيم تفرقة بين المترددين عليه والمنتفعين به بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو اللون طبقا لمبادئ المساواة الراسخة في جميع الدساتير المصرية المتعاقبة وآخرها المساواة وحقوق المواطنة الراسخان في دستور 2014 الذي يحكم حياة المصريين في أيامنا هذه.
قرار وضع أكشاك للفتوي داخل محطات المترو فيه تعد صارخ علي الدستور والقانون ويمثل تمييزا طائفيا بغيضا بين المواطنين علي أساس ديني, ناهيك عما يمثله من انتهاك مستفز لمدنية الدولة في مرفق مخصص للمصريين جميعا وما يحمله من شبهة تهديد بخلق مناخ فارز قد يفجر صراعات أو مشاحنات بينهم, وتعطيل حسن سير ذلك المرفق العام المخصص لنقل الركاب وليس لهدايتهم!!… علاوة علي وجود مخاوف حقيقية من أن يستغل المتشددون أو المتطرفون هذا المجال في تأسيس لجان علي غراره في أماكن العمل والأماكن العامة لفرض السطوة والوصاية علي الناس في إحياء خطير لهيئة الأمر بالمعروف والنهي علي المنكر!!!
نحن لسنا ضد إصدار الفتوي وفق قانون تنظيم الفتوي العامة وهو القانون رقم 70 لسنة 2017 ولائحته التنفيذية ولنا في تطبيق ذلك مجال متسع في المساجد التي قدر عددها رئيس القطاع الديني بوزارة الأوقاف بمائة وخمسة عشر ألف مسجد موزعة علي جميع أنحاء مصر… أما قرار إنشاء أكشاك للفتوي بمحطات مترو الأنفاق فقد جاء مخالفا للدستور والقانون وصادما للواقع المعاش ولمبدأ المواطنة وما كان لوزير النقل أو رئيس هيئة مترو الأنفاق أن يرضخا له, ويتحتم إلغاؤه.
هذا ما عبر عنه الأستاذ هاني صبري المحامي, وتبقي لدي عدة خواطر:
** مهما كان طيب المقصد وحسن النوايا التي تقف وراء مبادرة وضع أكشاك الفتوي في محطات مترو الأنفاق, تظل الكارثة كامنة في إصرار مؤسسة الأزهر علي تجاهل معايير الدولة المدنية التي تملي قصر أمور الدعوة الدينية علي دور العبادة ومؤسساتها وعدم اجتياحها سائر المرافق العامة الخاصة بالمصريين جميعا وما يمثله ذلك من فرض وصاية الدين علي العقل وتغييب الدستور والقانون… وفي هذا تكمن مسئولية أجهزة الإدارة المدنية في عدم الانصياع والاستسلام.
** يظل هناك إصرار واضح من جانب مؤسسة الأزهر علي تغافل الأصوات الداعية إلي إصلاح الخطاب الديني عن طريق مراجعة وتنقية ما بداخل المؤسسة من فكر ومراجع وكتب ومناهج ومطبوعات, واعتبار أن كل المعوج موجود خارج المؤسسة وليس داخلها في تناقض مقلق جدا مع ما يصلنا من شواهد ودلائل علي أن مكمن الخطر وجذور التطرف ترقد في الداخل تنتظر تنقيتها.
** ألم نتعلم الدرس بعد من استحالة السيطرة علي كل ما يخرج من أفواه الدعاة وما يصدر عنهم من فتاوي؟… كيف نضمن سلامة جميع المقاصد والضمائر ونطمئن إلي ثباته واستقراره في جميع مصادره واجتهاداته, ناهيك عن شبهة الفساد في تأويله وترديده من جانب جمهور المستهلكين؟… طالما دعونا إلي أن يؤدي الأزهر دوره الديني والتنويري في إنتاج كتاب واحد -مهما كبر حجمه وتعددت صفحاته- يحصر بين غلافيه كل أمور الشريعة والفتوي حتي يقطع الطريق علي آلاف الروافد التي تضلل الناس ويستطيع كل مسلم أن يحتمي به وكل مفت أن يسترشد به دون تردد أو خوف… لكن للأسف مازلنا نشاهد كيف تترك الأمور لتخرج عن حدود السيطرة وتنفجر المعارك الكلامية بين المفكرين المسلمين بعضهم وبعض حول صحيح الدين والشريعة ويتهم البعض بازدراء الدين لأنهم تجرأوا وتفوهوا بما يجب عمله.
*** أرجو أن تعي الدولة المدنية فداحة المخاطر المتمثلة في أكشاك الفتوي التي ستوضع في محطات مترو الأنفاق كآخر سلعة جديدة تنضم لقائمة الوجبات السريعة في حياتنا… وذلك قبل أن تستفحل وتخرج عن نطاق السيطرة.
نقلا عن وطنى