الأقباط متحدون - صعود لقمة تارا وهبوط لهاوية التطهير العرقي
  • ١٣:٣٥
  • الأحد , ١٣ اغسطس ٢٠١٧
English version

صعود لقمة تارا وهبوط لهاوية التطهير العرقي

فاروق عطية

مساحة رأي

٤٠: ٠٩ ص +02:00 EET

الأحد ١٣ اغسطس ٢٠١٧

العراق
العراق

 فاروق عطية 

 من لوكافاس حيث مكان استقرارنا، قررنا الذهاب إلي منطقة الجبال الصربية لزيارة قمة تارا ومنها إلي مدينة زيلاتيبور السياحية. انطلقنا في الصباح الباكر (السادسة صباحا) مستقلين الحافلة التي حجزنا بها مقاعدنا منذ أيام. انطلقت الحافلة شرقا إلي جمهورية صربيسكا نحو الهدف الذي نبتغيه. كانت مقاعد الحافلة مريحة والطريق ممهدا والمناظر رائعة الجمال، والصحبة رائعة.
 
    وبعد حوالي ساعة من بداية الرحلة شاهدت علي الطريق الكثير من المنازل المهدمة تماما حتي وصلنا لمشارف مدينة سريبرينيتسا المدمرة. قال أحد الجلوس خلفي: هذه المدينة رأت من الأهوال ما لا يصدقه عقل. لقد قتل فيها في يوم واحد أكثر من ثمان آلاف رجل ما بين 14 و 50 عاما من البوسنيين البوشناق (المسلمين). وأردف آخر: عندما اشتعلت الحرب البوسنية أعلنت الأمم المتحدة في أبريل 1993م أن مديبة سريبرينيتسا منطقة آمنة وتحت حماية قوات الأمم المتحدة ممثلة بعناصر الكتيبة الهولندية والتي يبلغ تعدادها 400 عنصر. بناء علي ذلك قام المتطوعون البوسنيون الذين كانوا يدافعون عن المديبة بتسليم ما لديهم من أسلحة للكتيبة الهولندية. أكمل آخر: بأوامر من هيئة أركان القوات الصربية احتل الجيش الصربي المديبة. بعد دخول القوات الصربية البلدة بدأت بعزل الرجال ما بين 14 و 50 عاما عن النساء والشيوخ والأطفال، ثم تصفيتهم وقامت بدفنهم بمقابر جماعية، كما تمت عمليات اغتصاب ممنهجة للنساء، دون أي تدخل من الكتيبة الهولندية، وقد ارتكب المجزرة وحدات من الجيش الصربي بقيادة الجنرال راتكو ملاديتش، ووحدة شبه عسكرية تابعة للشرطة الصربية تعرف باسم فريق العقارب. قال آخر متحسرا: كانت قبل المجزرة مديبة صناعية، صناعاتها الرئيسية التعدين، مصانع للرصاص والزنك والذهب والملح إضافة لوجود منتجعات صحية بها، لكن اقتصاد المديبة دُمر تماما بعد الهجوم الصربي، وبدأ في التعافي في الوقت الراهن ولكن ببطء شديد. قالت الكمسارية: مساحة البلدة حوالي 527 كم مربع وترتفع عن سطح البحر بـ 275 م وعدد سكانها الآن 15242 نسمة حسب إحصائية 2013 بأغلبية صربية. في 24 مارس 2007 اعتمد التجمع البلدي لسريبرينيتسا قرارا بالانفصال عن صربيا والبقاء بالبوسنة والهرسك، لكن الأعضاء الصرب رفضوا القرار، والمدينة الآن تتبع جمهورية صربيسكا التي تشكل اتحادا فدراليا مع البوسنة والهرسك
   كان الحديث عما جري بمدينة سريبرينيتسا من الأسباب التي جعلتنا لا نمل طول الطريق. استمرت الحافلة في السير بمحازاة نهر درينا الرائع الجمال الذي كان يزداد اتساعا كلما سرنا قدما حتي وصلنا إلي الكوبري الفاصل بين الحدود الصربية وجمهورية صربيسكا. توقفت الحافلة وتم جمع جوازات السفر من الركاب جميعا. قال مرافقي: نحن الآن بمديبة براتوناس وهي آخر حدود جمهورية صريسكا المتحدة فدراليا مع البوسنة والهرسك، ونهر درينا هو الفاصل بين صربيا وصربيسكا، وحين نعبر الكوبري نكون في مدينة ليوبوفيا الصربية. مرت حوالي 15 دقيقة ثم عادت الكمسارية من مكتب جوازات المرور الصريسكي بعد مراجعة جوازات السفر وسارت الحافلة علي الكوبري الفاصل وتوقفت أمام مكتب الجوازات الصربي، وتوجهت الكمسارية بجوازات سفرنا لمراجعتها.
 
   استفرق الوقت لمراجعة الجوازات أكثر من 45 دقيقة دون السماح لأي فرد بالخروج من الحافلة للتدخين أو لفك العضلات من طول 
فترة الجلوس.  بعدها تقدم أحد ضباط البوليس الصربي داخل الحافلة ونادي علي شخص إسمه محمد ابراهيموفتش، الذي رفع يده معلنا عن تواجده فتقدم منه الضابط واقتاده إلي المكتب. استمر التحقيق معه لمدة نصف ساعة أخري ونحن نتململ داخل الحافلة. ذهب السائق والكمسارية للمكتب لاستطلاع كنه الأمر، وعادا إلينا قائلان أن هذا الشخص مقبوض عليه للاشتباه بارتكابه أعمال إجرامية إثناء الحرب البوسنية وإسمه علي قائمة المطلوب القبض عليهم. قالت زوجته (كانت مرافقة له بالرحلة): هناك خطأ والأمر مجرد تشابه في الأسماء، فقد حدث أن تم القبض عليه في البوسنة لنفس السبب ولكن بالبحث في مستندات الأمم المتحدة وجد أن شخصا آخر له نفس الإسم هو من قام بذلك وأن عمره أكبر من عمر زوجي بحوالي عشر سنوات، وأطلق سراحه. ذهبت الزوجة لمكتب الجوازات وحاولت التحدث مع الضباط دون جدوي وعادت ومعها ضابط قام بالتفتيش داخل متعلقاتها ومتعلقات زوجها.
 
   كانت الفترة الزمبية التي استفرقتها الحافلة من لوكوفاس حتي مكتب جوازات صربيا لا تزيد عن ساعتين، وقضينا أكثر من ساعة ونصف ونحن حبيسي الحافلة علي الحدود حتي سمح لنا بالدخول مع استمرار حجز المتهم. خلال هذه الفترة زاد اللغط بين الركاب والتذمر، قال الكثير منهم أن الصربيون لا يحبوننا لأننا مسلمون، ويتحينون الفرص لإذلالنا. قالت سيدة منهم: لوكانت الحافلة تقل غير البوسنيين ما حجزوها كل هذه المُدة، كانوا اكتفوا بالقبض علي المتهم وتسيير الحافلة فورا. قال آخر: واضح التحيز الديني فالمتهم شاب لا يمكن أن يكون هو الفاعل لأن الحرب مرّ عليها أكثر من 22 عام، أي أن هذا الشخص كان وقتها طفلا، ولكن للأسف إسمه محمد، وإسمه يكشف أنه مسلم ..!
 
   حاولت أن أهدئ من ثائرتهم والتخفيف من صدمتهم محاولا إبعاد التحيز الديني العالق بأفكارهم، قلت: ألم تسمعوا زوجة الشاب وهي تقول أن البوليس البوسني قد قبض عليه سابقا بنفس التهمة، وكما تعلمون البوليس البوسني بالقطع بوليس مسلم ولكن أمام طلب القبض علي مجرم لا بد من التنفيذ، كذلك فعل البوليس الصربي. وإذا كان مجرد تشابه أسماء كما قالت زوجته فسيتم إطلاق سراحه فور التأكد بالدليل القاطع من براءته. ولكني موقن من عدم اقتناعهم نظرا لما رأوه وعاشوه إبان الحرب وما بها من أهوال.
 
  بعد أن تسلمنا جوازات سفرنا انطلقت الحافلة للهدف وهو الوصول إلي قمة جبل تارا. ويقع جبل تارا في غرب صربيا، وهو جزء من جبال الألب الدينارية، ويرتفع عن مستوي سطح البحر ما بين 1000 و 1500 متر. وكانت الحافلة تسلك دروبا ضيقة زجزاجية شديدة الانحدار، مكسوة بالغابات الكثيفة والمروج الخضراء الرائعة المنظر، تشرف علي هوة سحيقة شديدة الخطورة، ولكن مهارة السائق وسيره  ببطء وهوادة وتحكم جعلنا نحمد الله علي السلامة. نري من النوافذ هذه الوديان العميقة وما بها من التواءات تمت بفعل نحر نهر درينا المجاور. كما لاحظنا وجود نتوءات وحفر وكهوف جيرية ببعض مناطق الجبل تمت بفعل عوامل التعرية المختلفة. استمررنا صعودا قرابة ساعة من الزمن حتي وصلنا إلي القمة حيث قرية تارا علي ارتفاع 1495 م من مستوي سطح البحر. وقفت الحافلة بجوار استراحة (مقهي سياحي)، دلفنا لاحتساء المشروبات واستخدام دورات المياه. علي هذا الارتفاع الشاهق شعرت بضيق التنفس لنقص نسبة الاكسوجين وتعجبت من مقدرة سكان هذه المناطق الجبلية من التكيف مع هذه الظروف. ويعمل سكان هذه القرية وما يحيط بها من قري في رعي الغنم الذي شاهدناه يرعي بين المروج، وقطع أخشاب الأشجار لاستخدامها في الصناعات الخشبية وتحويل الأفرع إلي فحم نباتي.
 
   بعدالاستراحة والتقاط الأنفاس عادت الحافلة للهبوط والعودة إلي ليوبوفيا، ولولا ستر الله وحصافة السائقين لتعرضا لكارثة أثناء الهبوط، فقد فوجئنا في أحد المنحيات الحادة والمشرفة علي هوة سحيقة بقدوم عدد من الحاويات الضخمة من الجهة المقابلة، توقف سائق الحافلة وأعطي إشارة للحاوية الأمامية الذي توقف سائقها بدوره وتوقفت الشاحنات الأُخر التي خلفها وشرعت في التقهقر البطيئ للخلف حتي تفسح مجالا لحافلتنا لعبور المنحني الخطر واستغرقت هذه المناورة حوالي 20 دقيقة من الرعب والخوف.
 
   ومن مديبة ليوبوفيا سارت الحافلة في طريق جبلي أخر له نفس المنحنيات الزجزاجية صعودا إلي مدينة زلاتيبور السياحية. وحين وصلناها بعد حوالي ساعة أخري من تسلق الجبال، قالت لنا مشرفة الحافلة (الكمسارية): أمامكم أربعة ساعات للتجوال في المدينة والعودة إلي الحافلة (الساعة الخامسة والنصف) لنأخذ طريق العودة للوكافاس.
 
   وزلاتيمور منطقة جبلية تقع في مقاطعة وسط صربيا. تبلغ مساحتها حوالي 300 كم مربع وعدد سكانها 2690 نسمة، وترتفع عن مستوي سطح البحر 1219 مترا. وتعتبر منطقه سياحية هامه، وهي منتجع مناخي يتميز بمناخ الألب البارد، والهواء النقي، والفترات الطويلة من أشعه الشمس خلال فصل الصيف، والغطاء الثلجي الكثيف في فصل الشتاء. وتشمل المرافق السياحية الفنادق الحديثة، ومراكز العطلات والأكواخ، والملاعب الرياضية وساحات التزلج علي الجليد. وقد تحولت مدينه زلاتبور من مجرد مجموعه منازل مخصصة لقضاء العطلات إلى موقع حضري كامل، إسمها مشتق من الكلمات الصربية زلاتني (الذهبي) وبور (الصنوبر) لما يحيط بها من أشجار الصنوبر. الحدود الجنوبية والشرقية لمنطقه زلاتيبور حدود طبيعيه تتكون من نهري اوفاتش وفييكي رشاف، وتشكل قرى مورا جورا، وسيغجنيفو ، ويابلانيكا حدودها الغربية باتجاه جبل تارا. عملتها هي الدينار(الـ ك.إم البوسني يساوي حوالي 60 دينارا).
 
   تجولنا في متنزهات المدينة وأسواقها ومطاعمها الأنيقة ومقاهيها النظيفة. دلفنا لأحد المطاعم جميلة المنظر وطلبنا وجبة الغذاء ولاحظت عدم جودة الطعام والارتفاع المبالغ فيه في أثمانها مقارنة بمثيلها في البوسنة. ثم ذهبنا لأحد المقاهي لارتشاف فناجيل القهوة التركية، ثم تجولنا حول بركة صناعية كبيرة في وسط المدينة يحيط بها أكشاك لبيع التذكارات والحلوي والمعجنات، وبعض عربات الحنطور والخيول التي تؤجر للتجول السياحي. وفي الميعاد المحدد كنا داخل الحافلة في الطريق للعودة إلي لوكافاس.
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع