أطهر صبايا العالمين … سيدة الحزن النبيل
مقالات مختارة | فاطمة ناعوت
الثلاثاء ٢٢ اغسطس ٢٠١٧
كل سنة و #مصر والمصريون بخير في عيد
هي الفتاةُ الصبوحُ التي حصدت قلوبَ البشر جميعًا؛ بألوانهم وجنسياتهم ومعتقداتهم وفلسفاتهم. النقيةُ البتولُ، والأمُّ المُطوّبةُ، التي اجتمعتِ البشريةُ بين كفّيها الطيبتين، يتلقّفون منهما شهدَ البركات وقطوفَ الحنوّ، دون أن يقدّموا أوراقَ اعتماد عَقَدية أو مذهبية. ذاك أن العقائدَ والمذاهب والنِحل قد اجتمعت خيوطُها وانعقدت جديلةً واحدةً فوق بُساطِها. ليس مطلوبًا منك أن تُعلن عن دينك أو مذهبك لكي تبرّر لماذا قلبُك مربوظٌ بقلبِها، أو لماذا عيناك مصوّبتان نحو إكليلها النورانيّ. هي السيدة التي طَوّبتها السماءُ ثلاثَ مرّات بأكاليل ثلاثة. مرّةً أولى بإكليل دهشة عذراء ووجلها؛ حين علمت بحملها في جنين، من دون رجل! فخافت من تقوّلات المُتخرّصين الذين يتحرّقون شوقًا للخوض في شرف العفيفات. ومرّةً ثانية بإكليل فرح سيدة، حين أخبرتها السماءُ بأن حملها مباركٌ قدسيٌّ صدع بكلمةٍ من الله وروحه. حملٌ من دون رجل، بأمر إلهي استثنائي حدث مرّة في تاريخ البشرية، لم يتكرر، ولن. ومرّة أخيرةً بإكليل دمع ثكلى منكسرة حين شهدت اتهام ابنُها النوارنيُّ ظلمًا، ومحاكمته ظلمًا، واقتياده حاملا صليبَه الخشبيَّ قهرًا وظلمًا، دون أن يرتكب من صنوف الآثام والخطايا، إلا إشاعة الحب والسلام بين بني بشر يرون في شيوع الحب والسلام خطيئة وإثمًا. حتى شهدت عيناها الباكيتان وحيدَها رسولَ السلام والحب، يموتُ أمام عينيها، وفق الأدبيات المسيحية، أو يُرفَع إلى السماء، جوار عرش الله، وفق أدبياتنا الإسلامية. أيُّ حزنٍ سكن قلبَ تلك الفتاة الجميلة التي غدّت أمًّا لكلمة الله بروح مقدسّة، وأيُّ وجعٍ وأيُّ عذاب! سيدةُ الحزن النبيل التي طُوّبَت بيد الله التي مسحت عن قلبها الثكلَ، حتّى تحوّل الحرمانُ من الولد إلى أمومة هادرة لكل بني الإنسان. فغدت من دون رجل، أمًّا لي، ولك، ولسائر بني آدم. لكل ما سبق؛ خصّها القرآنُ الكريمُ بسورة باسمها، سورة "مريم" دون سائر نساء العالمين، ذاك أنها أطهرُ نساء العالمين.
في هذه الأيام الطيبة يحلُّ عيدُ تلك السيدة الجميلة. ويحتفلُ أشقاؤنا المسيحيون بعيدِها بالصوم أربعة عشر يومًا بدأت في الأمس وتنتهي يوم عيدها الذي يجتمع فيه المصريون والأجانبُ من مختلف العقائد والمشارب والأوطان مسلمين ومسيحيين لينالوا من بركات تلك الأم العظيمة التي قدّمت للإنسانية رسولاً عظيمًا علّم الإنسانَ الصفحَ والغفرانَ ونزع من قلب بني آدم شوكةَ البغض والانتقام والقِصاص وردّ الإساءة بالإساءة، والسيئة بمثلها. جاء ليعلّمهم نهجًا جديدًا حيث ردّ الإساءة بالإحسان، واللعنات بالمباركة، والعداوة بالمحبة. قال لتلاميذه: “أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسِنوا إلى مُبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يُسئون إليكم ويبغضونكم.” وقدّم لهم مثالا عمليًّا على هذا الدرس الطوباويّ العجيب حين تضرّع إلى الله أن يغفر لكل من آذاه وكل من شارك في تلك المحاكمة الظالمة التي انتهت بحكم الموت. تأتي الثكالى ليطلبن من ثكل العذراء راحة للقلوب النازفة، وتأتي العواقرُ ليطلبن منها شفاعة لله أن يُرزقن بالولد، ويأتي المحزونون لكي تمسح بحزنها على أحزانهم، فتطيب.
المرُّ الذي اعتصر قلب أمٍّ تشهد عذاب ابنها البريء، تحوّل بين كفّيها إلى عصير شهدٍ تسكبه على قلوب جميع الحزانى حتى يبرأوا من أحزانهم كما برأت من حزنها برحمةٍ من الله ورأفة. لهذا أضع فوق رفوف مكتبات بيتي تماثيلَ كثيرةً للسيدة العذراء البتول، عليها وعلى ابنها السلام، حتى يهون أمام عيني أيُّ حزن يمرُّ بحياتي. فأيُّ وجعٍ مهما تشاسع؛ يتضاءل أمام وجعها الذي حوّلته إلى رأفة وحنوّ على بني الإنسان. فطوبى لتلك السيدة الكريمة وطوبى لكل من يمسح دمعةً على وجه حزين؛ كما مسحت بيديها الطيبتين دموعَ جميع الحزانى من بني الإنسان.