أسميناه: «كوكب اليابان». لماذا؟ ليس لأنه الأكثرُ تطوّرًا فى البرمجيات والتكنولوجيا والصناعات الدقيقة على مستوى العالم. ولا لأنه الأنظفُ والأرقى والأكثر نظامًا فى شوارعه ومبانيه وأروقته. وليس لأن أبناءه هم الأكثر انضباطًا فى المواعيد، والأكثرُ تقديسًا للعمل والأوغل إتقانًا له. وليس وحسب لأنهم الشعب الأكثرُ احترامًا للعقل، والأشرق ابتسامًا فى الوجه. وليس لأن قنبلتين أمريكيتين ذريتين قصفتا جبينه، أعقبهما احتلالٌ أمريكى رذيل، لم يتحرر منه اليابان إلا أول أمس، عام 1952، وكأنه بالأمس فقط، ليخرج من القصف والاحتلال أقوى وأصلب وأشدّ إصرارًا على النهوض، ليس قفزًا، ولا وثبًا، بل طيرانًا صاروخيًّا، ليغدو القوة الاقتصادية والصناعية الأولى فى العالم. ليس لكل ما سبق من معجزات نسميه «كوكب اليابان»، رغم أن كلَّ واحدة مما سبق، تكفى لأن نجعل من ذلك البلد الجميل المتفرد «كوكبًا»، مستقلا واستثنائيا. وقبل أن نفكر فى إجابة السؤال، تعالوا نتعرّف على معنى كلمة «اليابان».
مفردة «يابان»، تعود للعبارة الصينية: «زو-بون»، وتعنى باللغة الصينية: «أرضُ مشرق الشمس» أو «أرض الشمس المشرقة»، أو «أرضُ منبع الشمس وأصلها». وهذا الاسم لم يطلقه اليابانيون على أرضهم، إنما أطلقه الصينيون، من قديم الأزل، على اليابان. لماذا؟ لأن اليابان تقع شرق الصين. أى أن الشمس تصل اليابان أولا، ثم تزحف نحو الصين على خطوط العرض الجغرافية. بل إن اليابان كانت تقع فى أقصى شرقى العالم المأهول، آنذاك، فظنّ الصينيون أن الشمس تُشرق من تلك الأرض المجاورة، فأطلقوا عليها «مشرِقُ الشمس». ولو كان بوسع الصينيين قراءة المستقبل، لأدركوا أنهم اختاروا الاسم الصحيح لتلك الأرض، ليس لأن الشمس تزورها قبل بقية العالم، بل لأن اليابان تستحق بالفعل أن تحظى باسم «مَشرِقُ الشمس ومنبعُها». فالاسم إذن صحيح «حضاريًّا»، وليس «جغرافيًّا»، وحسب.
والآن، لنرَ ماذا يقول أحد اليابانيين عن بلاده فى كليب صغير عنوانه «أفضل ما فى اليابان»، أترجم لكم كلماته.
«اليابان مدهشة لعدة أسباب. ولكن السبب الأهم بالنسبة لى، بوسعنا أن نُلخصه فى الكلمتين الآتيتين. «الوعى بالآخر». فى اليابان، يتصرف الناسُ وهم يحملون «الآخرين» فى عقولهم، بدلا من التفكير فقط فى أنفسهم. ولنأخذ مثالا بسيطًا على ذلك. حال الناس وهم يهبطون أو يصعدون على السلم الكهربائى. فى البلاد الأخرى، يمكن أن نرى علامات وإشارات على الناس أن يتبعوها حتى يحفظوا النظام، ومع هذا ستجد من بينهم من لا يطيع العلامات. أما فى اليابان فستجد كلَّ إنسان يسلك السلوك الصحيح أوتوماتيكيًّا، حتى يستطيع كل شخص الصعود والهبوط بمنتهى اليسر. كذلك يفعل اليابانى فى «كل» شىء يستخدمه خلال يومه حتى تَسهُل الحياة على كل إنسان آخر. بوسعك النوم فى مترو مزدحم، لأن الآخرين هادئون لا يثرثرون أو ينثرون الضوضاء من حولك. فى اليابان تستطيع أن تستمتع بالشوارع النظيفة، لأن الناس لن يلوثوا الأماكن أو يلقوا بمخلفاتهم فى الطرقات. فى اليابان بوسعك أن تشعر بأنك «ملك»، لأن الناس سيقدمون لك الخدمات مع ابتسامة وانحناءة. ثقافة «الاحترام» تخلق حالا غير معقولة من أجواء الأمان من حولك، تلك التى تؤدى إلى معجزات اليوم الحديثة. فى مقهى مزدحم فى اليابان، بوسعك أن تترك هاتفك أو حاسوبك على الطاولة، ولن تجد من يسرقه. بوسعك أن تترك دراجتك بالخارج دون جنزير يربطها أو قفل يشدّ وثاقها، وسوف تجدها فى ذات المكان حين تعود إليها. فقط فى اليابان سترى أشياء لن تراها فى أى مكان فى العالم. ستجد موتوسيكلات واقفة على الرصيف، ومفتاح تشغيلها فى مكانه والموتور دائر جاهز للسير، ولا أحد يفكر فى أن يستغل الفرصة. حينما تُنشئ مجتمعًا الناس فيه «تفكر» بالآخرين، ستكون الحياة أفضل «لكل» الناس. إنه الدرس الذى يجب على كل العالم أن يتعلموه من اليابان. احترام الآخر».
انتهى الفيديو المصوَّر الذى نشره أحد اليابانيين على موقع التواصل وتناقلته وسائل الإعلام. «احترام الآخر» هو الأمر المدهش فى اليابان، والذى لمسه كلُّ من أسعده زمانه بالسفر إلى ذلك البلد السعيد. المواطن اليابانى حريص كل الحرص على راحة وأمان وسلامة ورفاهية «الآخر». اليابانى يعرف حقوق الآخر عليه، ويُقدّم تلك الحقوق عن طيب خاطر، قبل أن يطالب بحقوقه هو. وذاك قمة الذكاء. لأنه حين يقدم «واجبات» الآخرين، فإنه فى نفس اللحظة يضمن «حقه» الشخصى، لأن الآخر سوف يؤمن له واجبه، أى حقه. الحقُّ والواجب أصبحا معًا «واحدًا صحيحًا» لا تنفصم عراه، وليسا فعلين متلازمين أو منفصلين يتمان معًا أو يختلفان أو يفترقان.
وإذن فإن السؤال فى عنوان المقال: «لماذا اليابانُ يابان؟»، إجابته تكمن فى كلمة واحدة فقط: «الأخلاق». هذا شعبٌ يتعلم الأخلاق فى طفولته قبل تعلّم المشى والكلام والقراءة والكتابة. الأخلاق هى متلازمة الحضارة والتحضر والرقى والمجتمع النظيف السوى. الأخلاق هى فن مراقبة الآخر. ليست «مراقبة الآخر» كما نفعل عندنا، أن نقتحم خصوصياته فننتقد ما يلبس وندس أنوفنا فى حياته الشخصية لنسأل عمن يُصاحب وكم يتقاضى من راتب، وكم ورث عن أبيه وكم أنفق فى السفر، وكم مرة حج وصلى وصام وشرب الخمر! إنما «مراقبة الآخر» تعنى فى الأدبيات اليابانية العمل على راحة الآخر والاجتهاد فى تكريس شعور الآخر بالأمن والراحة. هذا شعبٌ يستحق الحياة، هذا شعب ستقول له الملائكةُ يوم الحساب: أحسنتم صنعًا فى الدنيا.
نقلا عن اليوم السابع