هل تتذكر أول مشهد في حياتك؟
مقالات مختارة | بقلم :د. عمار علي حسن
الاربعاء ١٣ سبتمبر ٢٠١٧
كل إنسان يحاول أن يحفر في ذاكرته ليصطاد أول صورة، وأول حركة، وأول كلمة، وفي ذهنه، ربما دون أن يعي، رغبة جامحة في أن يكسر قواعد علم نفس النمو التي تنبئنا بأن كل ما جرى لنا في السنوات الخمس الأولى يُمحى، كأنه لم يكن، ولا يعرف الفرد منا عن نفسه إلا ابتداء مما جرى له بعد الخامسة من عمره.
ربما يكون هناك استثناء، فالبعض يزعم أنه يتذكر واقعة جرت له في الرابعة أو الثالثة من عمره، أو حتى قبل هذا، لكن أتصور أن مرد هذا الزعم هو مما يتخيله هذا وهو ينصت إلى حكايات أهله عن طفولته المبكرة، فلما يتقادم الزمن بهذا الحديث، يستدعيه هو في لحظة ما، وهو يظن أنه يأتي بالواقعة الأصلية، وليست بتلك التي رسمها خياله من حصيلة ما سمعه من الأهل.
وقد وقعت أنا في هذا من خلال حكاية قصتها أمي على مسامعي عن أنني خرجت ذات ضحى من بيتنا هائما على وجهي في الشارع، لكنني عدت أصرخ، ماسكا برأسي، وكنت أيامها لم أتكلم بعد، فهدهدتني أمي، وتركتني لأعود إلى الشارع ماشيا، فإذا بي أهرع إليها صارخا من جديد، فعادت إلى ما فعلته سابقا حتى غادرني البكاء، وأطلقتني وهي تراقبني، فإذا بطفل يكبرني سنا، كان قريبا لجيراننا، يخرج من بيتهم وفي يده قطعة خشب يضرب بها رأسي، ويهرب إلى الداخل.
تخيلت ما جرى لي هنا، رغم رحيله عن الذاكرة، لتبقى أول واقعة أتذكرها فعلا، غير معروف لي زمنها على وجه الدقة، لكنها تسبق دخولي المدرسة، فأرى طفلا صغيرا، يرفع كفيه أمام عينيه ليخبئ الشمس، فيتمكن أن يرى ثمار النبق اليانعة، التي تبدو ككرات من ذهب أحمر، تلمع أكثر في الشعاع الصافي الدافق الذي يغمر الفروع والأغصان. وإلى جانبي خالتي الصغرى، وابن خالتها، التي هي أخت جدتي لأمي بالطبع، وفي يده أحجار صغيرة، يقذف بها المناطق الحبلى بالثمر، فينهمر فوق رؤوسنا، وأجرى لألتقطه وألقيه في جيب جلبابي حتى امتلأ.
أعتقد أن هذا الشخص نفسه، الذي لا تزال ملامحه محفورة في رأسي رغم أنه هاجر من مصر قبل ثلاثين عاما، شريك في المشهد الثاني الذي يحط في ذاكرتي من طفولتي المبكرة، إذ أرى نفسي محمولا على كتفيه، وهو يمشي على طريق مسفلت يعلو النيل، ويحده الجبل، وشريط ضيق من الزرع، في اتجاه مولد العذراء بقرية جبل الطير، وإلى جانبينا تمشي اثنتان من خالاتي، تتبادل الكبرى منهما معه حملي لمسافة حتى تتعب، فيأخذني هو، ثم يضعاني على الطريق لأمشي بعض الوقت حتى أتعب فيعودان إلى حملي بالتناوب.
أتذكر بالطبع هذين المشهدين كأنني أرى غيمة بعيدة تدفعها الريح بقوة، وتتشظى ملامحها ثم تعاود التجمع والتماسك، لكنها لا تلبث أن تبحر في زرقة السماء الممتدة، فأعيد تشكيلها في رأسي من جديد، لأراها مرة أخرى في عود لا ينقطع عني، ولا يمكن أن أتركه يفلت، لأنه ببساطة هو مبتدأ الحياة بالنسبة لي، وليس ذلك التاريخ السابق الذي دونوه في الأوراق الرسمية ليقول إنني ولدت قبل هذا بسنوات. أعتقد أن ما جرى لي قد جرى في حياة أي فرد منا، عليه أن يجلس ولو لدقائق ليغوص في الزمن كي يصطاد أول مشهد في حياته المديدة
نقلا عن مصراوى