الأقباط متحدون - «أنا فى مِلك الحكومة»
  • ٢٣:٢٨
  • الجمعة , ١٥ سبتمبر ٢٠١٧
English version

«أنا فى مِلك الحكومة»

مقالات مختارة | رامى جلال

٠٠: ١٢ ص +02:00 EET

الجمعة ١٥ سبتمبر ٢٠١٧

رامى جلال
رامى جلال

هل يمكن رصد بعض الفروقات بين الدول والشعوب بمجرد تأمل ظهر مقاعد المترو بها؟ أظن أن ذلك ممكن.. يروى أن طفلاً يابانياً جلس فى عربة المترو باليابان، وشرع فى تقطيع ظهر المقعد المقابل له، فى محاولة دؤوب لاستخراج أحشائه الإسفنجية، فقالت له أمه ببساطة: «توقف، اليابانى لا يفعل ذلك».

منذ أشهر حكت لى وزيرة مصرية أنها كانت فى جولة عمل أوروبية، وآلت الأمور بها إلى عربة مترو بالعاصمة الإسبانية مدريد، ولأن يوم العمل كان شاقاً وقاسياً، قامت هى لا إرادياً بمد قدميها المتعبتين بحيث لامستا دون قصد الكرسى المقابل، فوجدت، على الفور، شاباً إسبانياً مهذباً يطلب منها بأدب أن تبعد قدميها لأن هذا قد يسبب بعض التلفيات فى ظهر المقعد المقابل، وهو ما يمثل إهداراً لأموال الشعب الإسبانى.. أما فى دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد حكى لى أحد المعارف أنه حُبس لتسعة أيام نتيجة رسمه لخط واحد فقط على ظهر أحد مقاعد المترو.

فى مصر ستتمكن بسهولة من تفحص أحشاء ظهر أى مقعد مترو، سواء بتأملها وهى تختلس النظر إليك من فتحات الجلد المقطوع، أو عبر تسلية وقتك خلال رحلتك بالتنقيب عنها، أو بتقمص دور الجراح الماهر والوصول لقلب المقعد باستخدام إحدى أدوات طبيب المترو الناجح، كالمطواة مثلاً.. لن يلومك أحد، بل قد يتطوع البعض بمساعدتك باعتبار أن الاتحاد قوة، وذلك على ألحان أغانٍ مثل: «الإيد البطالة نجسة»، و«ساعة الحظ ما تتعوضش»، و«هى فلوس أبونا؟».

فى بلدنا ستجد ظهر معظم مقاعد المترو منبوشة كالقبور المهجورة، وجثث الإسفنج تطل منها وكأنها تتأمل وجوه الركاب باحثة عن قاتلها المجهول، أما لو كان المقعد بلاستيكياً فستجد به لوحات من أجود فنون الحفر، وفى كل الأحوال ستقابل قطعاً أدبية مكتوبة على المقاعد، معظمها من الغزل الصريح الذى قد يمر على الرقابة الشعبية فتجد بعض كلماته قد شُطبت مع الوقت مما يزيد قبح المنظر وعبثيته.

ما يحدث بالمترو هو مجرد مثال، وهو موجود فى كل شىء.. ظهور مقاعد المترو تشبه ظهور الموظفين واختفائهم.. ففى المصالح الحكومية المصرية أهم شىء هو «النظام» وليس «المنتج»، فتجد ملايين الموظفين يوقعون يومياً فى دفاتر الحضور والانصراف دون أن يكون لحضورهم معنى ولا لانصرافهم سبب! فإذا كانت مصلحة حكومية ما تُنهى عملها الساعة الثانية مثلاً، فيمكنك، وبكثير من الثقة، أن تراهن، وبأى مبلغ، أنك لن تجد أحداً بتلك المصلحة على مكتبه بحلول الساعة الثانية وعشر دقائق، وهذا لا يدل أن الموظف قد أنجز عمله قبل الثانية، ولكن يعنى فقط وببساطة أن الساعة هى الثانية، مما يفيد بأن موعد الانصراف قد حان! وهذه «عقلية سجناء» الذين ينهون مدة سجنهم، وهى نتيجة لنظرية «الشغل على قد فلوسهم»، مع شعور عام، حقيقى وطبيعى، بعدم الرضا، مما يُسبب حالة من اللاانتماء للمكان، تضرب الإنتاجية فى مقتل.

«مِلك الحكومة» هو فى الحقيقة من أملاك الشعب الذى ينقسم لقسمين، أولهما صغير يدفع ضرائب لا يشعر بأنها تعود إليه فى الخدمات والمرافق، وثانيهما كبير لا يدفع ضرائب على الإطلاق، ومن هنا يأتى الشعور بعدم الامتلاك، مع رغبة متصاعدة فى الانتقام منه لأنه ليس «مِلك الحكومة» فحسب، بل هو فى نظر الكثيرين الحكومة نفسها، وبالتالى فالتخريب أو عدم الإبلاغ عن المخربين هو من أعمال البطولة التى يجد بها الشخص المحبط لنفسه مكاناً عبرها، ويتحول من مُهمش إلى فاعل أصيل وبطل لصراع الإنسان المعاصر ومقعد المترو.
نقلا عن الوطن

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع