.. ومضى زمن الحوار الدينى الراقى
مقالات مختارة | بقلم : خالد منتصر
الاربعاء ٢٠ سبتمبر ٢٠١٧
فى الليلة الظلماء يفتقد البدر، وفى محيط فتاوى البورنو ولغة السباب والفحش، يفتقد زمن حوار محمد عبده وفرح أنطون الراقى، ليست مصادفة أننى كلما شاهدت مناظرة لداعية أو سلفى أو إخوانى أو بحثت عن حوار لهؤلاء على وسائل التواصل الاجتماعى أجد لغة متشنجة وسباباً وشخصنة وردحاً وتهديداً وضيق صدر بالحوار أصلاً، أترحم على الزمن الذى مضى عليه أكثر من مائة وأربعة عشر عاماً حين أصدر المفكر المسيحى فرح أنطون كتاباً عن ابن رشد وفلسفته ضمّنه مناظراته مع شيخ الأزهر محمد عبده، مناظرات راقية بلغة محترمة ليس فيها كلمة سباب ولا جملة شخصنة، فرح أنطون يدعو للعلمانية الصريحة والشيخ محمد عبده يعترض، أنطون يكتب فى مجلة «الجامعة»،
وعبده يكتب فى «المنار»، لم يتهمه الشيخ محمد عبده بالزندقة ولم يجرجره فى المحاكم بتهمة الازدراء، ولم يصرخ فى وجهه لحوم العلماء مسمومة وعظامهم ملغومة وغضاريفهم محمومة.. إلخ، بل على العكس كتب أنه يحترم الكاتب ويقدر المجلة، ومضى قطار وزمن هذا النوع من الحوارات الراقية يا ولدى، وكتب علينا أن نعيش زمن الحوار بالسكاكين، والتى تخلع فيها العمامات لارتداء قفازات الملاكمة وخلع الأحذية ونهش الأعراض أمام الشاشات، أدعوكم لقراءة كتاب أنطون، الذى أحتفظ بنسخته الصادرة عن سلسلة المواجهة من مكتبة الأسرة والتى أنادى بإعادة طباعتها ثانية، لتطّلعوا على كيف كان الحوار محترماً، ولضيق المساحة سأقتبس بعض ما كتبه فرح أنطون لتعرفوا وتخمنوا ما هو رد فعل دعاة أيامنا المتشنجة لو كتب «أنطون» كلماته الآن، يقول «أنطون»: «الإنسان لا يجب أن يدين أخاه الإنسان، لأن الدين علاقة خصوصية بين الخالق والمخلوق. وإذا كان الله سبحانه وتعالى يُشرق شمسه فى هذه الأرض على الصالحين وعلى الأشرار معاً، فيجب على الإنسان أن يتشبه به ولا يضيّق على غيره لكون اعتقاده مخالفاً لمعتقده، فليس إذاً على الإنسان أن يهتم بدين أخيه الإنسان أياً كان، لأن هذا لا يعنيه. والإنسان من حيث هو إنسان فقط، أى بقطع النظر عن دينه ومذهبه، صاحب حق فى كل خيرات الأمة ومصالحها ووظائفها الكبرى والصغرى حتى رئاسة الأمة نفسها. وهذا الحق لا يكون له من يوم يدين بهذا الدين أو بذاك بل من يوم يولد، فالإنسانية هى الإخاء العام الذى يجب أن يشمل جميع البشر ويقصر دونه كل إخاءٍ. وبناءً على ذلك إذا كان زيد مسلماً، وخالد مسيحياً، ويوسف إسرائيلياً، وكونوا بوذياً، وسينو وثنياً، وديدرو كافراً معطلاً يجحد كل الأديان لا يعتقد بشىءٍ قطعياً، فهذه مسألة بينهم وبين خالقهم عزَّ وجل لا تعنى البشر، ولا يجوز لهؤلاء أن يتداخلوا فيها»، ويتحدث عن التسامح، الذى يسميه التساهل «هل تطيق الأديان أن تصبر على أحد يجحدها، نحن نعلم أن كل الأديان لا تطيق ذلك على وجه الإطلاق. وإذا أطاقته اليوم فما ذلك إلا لأنها أصبحت تقدم الشرع المدنى على الشرع الدينى، فالمسلمون يسمّون جاحدى الأديان «زنادقة»،
وهم يوجبون قتلهم. والمسيحيون يسمّون هؤلاء الجاحدين «كفرة»، وهم يوجبون استئصالهم من بين الناس كما يُستأصل الزوان من الحنطة، ولذلك قتل الأكليروس المسيحى منكرى الأديان فى زمن ديوان التفتيش فى إسبانيا وقتل المنصور الزنادقة». يعود فرح أنطون إلى كلام «الأستاذ» محمد عبده، ويردّ عليه من جديد، فيقول: «ولكن من التناقض الغريب أن الأستاذ حلل هذا القتل والتمثيل فى الإسلام، وحرّمه فى المسيحية على يد ديوان التفتيش، فهل الفضيلة أو الرذيلة تتغير وتتبدل بتغيّر الزمان والمكان، أم تكون فضيلة أو رذيلة فى كل زمان ومكان؟ أما العلم فإنه يحرّم الأمرين معاً. فهو يقول لقاتلى الزنادقة فى الإسلام وقاتليهم فى المسيحية إنكم كلكم مخطئون فى قتل من تسمّونهم زنادقة، وإن كان هؤلاء قد أخطأوا خطأ ما بعده خطأ. ذلك أن الحياة التى منحها الله للبشر لا يجوز لإنسان أن يسلبهم إياها بأية حجة كانت وبأىّ سبب كان. وهنا يحدث أيضاً الانفصال بين العلم والدين، لأن العلم يدافع عن حق الإنسان المجرد كل دفاع، والدين لا يطيق التساهل إلى ذلك الحد خوفاً على نفسه».
نقلا عن الوطن