من زمن الحوار الراقى (2)
مقالات مختارة | بقلم :خالد منتصر
الخميس ٢١ سبتمبر ٢٠١٧
منذ ثمانين عاماً وبالتحديد 1937 نشر د. إسماعيل أدهم مقاله أو رسالته القنبلة فى مجلة «الإمام» والتى عنوانها «لماذا أنا ملحد»، كانت الرسالة مجرد 14 صفحة، ولكن تأثيرها آنذاك كان يساوى مجلدات، فالموضوع شائك، والعرض حقل ألغام، والأسلوب مطرقة صادمة للرؤوس، الكاتب شاب صغير اسمه بالكامل إسماعيل أحمد أدهم، ولد بالإسكندرية وتعلم بها، ثم نال الدكتوراه فى العلوم من جامعة موسكو فى 1931، وعُيِّنَ مدرساً للرياضيات بجامعة سان بطرسبرج، ثم انتقل إلى تركيا فكان مدرساً للرياضيات فى معهد أتاتورك بأنقرة، وعاد لمصر فى 1936.
انتحر غرقاً بعد كتابته للرسالة فى 23 يوليو 1940 وعثر البوليس بمعطفه على رسالة يوصى فيها بإحراق جثّته وعدم دفنه بمقابر المسلمين، الرسالة كانت رداً على رسالة أخرى للشاعر أحمد زكى أبوشادى، كان عنوانها «عقيدة الألوهية» والتى جاءت فى محاضرة ألقاها أحمد زكى أبوشادى فى ندوة الثقافة بالإسكندرية مساء الثلاثاء 3 نوفمبر 1936، أعلن «أبوشادى» فيها أنه مؤمن بالمزج بين الدين والعلم، رد «أدهم» من منطلق دراسته للرياضة البحتة وقراءاته الفلسفية والعلمية، معلناً إلحاده وإيمانه بقانون الصدفة وأن الكون مخلوق طبقاً لهذا القانون، وأن مليون حرف من الممكن لو اجتمعت صدفة أن تكتب القرآن أو كتاب أصل الأنواع، وهذا التفسير مريح له ولعقله أكثر من أن هذا الكون قد خُلق من خلال إله، ذلك لأن السؤال سيظل موجوداً ومن خلق الإله؟!، أعلن «أدهم» فى هذا الكتاب أنه سعيد مطمئن لهذا الإلحاد، تماماً كما يشعر المؤمن بالله بالسعادة والسكينة، وحكى قائلاً فى لغة صريحة وواضحة وغير مرتعشة: «زوج عمتى كان يأخذنى لصلاة الجمعة ويجعلنى أصوم رمضان وأقوم بصلاة التراويح، وكان هذا كله يثقل كاهلى كطفل لم يشتد عوده بعد، فضلاً عن تحفيظى القرآن، والواقع أنى حفظت القرآن وجوَّدته وأنا ابن العاشرة، ما كلفنى جهداً كبيراً كنت فى حاجة إلى صرفه إلى ما هو أحب إلى نفسى، وكان ذلك من أسباب التمهيد لثورة نفسية على الإسلام وتعاليمه»، بهذه اللغة الصادمة الحادة أعلن أدهم إلحاده، بل كان ينشر هذا الإلحاد، فلم يكتف بالمقال بل طبعه فى كتاب -كما يقول- تعميماً للفائدة، وقرر تكوين جماعة لنشر الإلحاد مقرها الأستانة!،
ماذا كان رد الفعل فى مصر الثلاثينات؟، هل أُعدم «أدهم»؟ هل سجن؟ هل رفعت عليه قضايا ازدراء؟، رد الفعل كان مقالاً من «أبوشادى» بعنوان «لماذا أنا مؤمن»، ثم مقال لمحمد فريد وجدى فى مجلة الأزهر -لاحظوا مجلة الأزهر- بعنوان «لماذا هو ملحد»، كان رد «أبوشادى» و«وجدى» غاية فى الأدب والاحترام ورقى اللغة وعدم الشخصنة والبعد عن التجريح والسباب، ولنتخيل لو كان إسماعيل أدهم قد نشر هذا المقال فى مجلة مصرية حتى ولو كانت تطبع نسخة واحدة، ماذا سوف يكون مصيره؟ ولنقرأ اقتباساً من مقال محمد فريد وجدى «لماذا هو ملحد؟» ولتكمل عزيزى القارئ قراءة باقى هذا الكتاب المفيد المتوافر على الإنترنت، يقول «وجدى»: «إن انتشار العلوم الطبيعية وما تواضعت عليه الأمم المتمدنة من إطلاق حرية الكتابة والخطابة للمفكرين فى كل مجال من مجالات النشاط العقلى، استدعى أن يتناول بعضهم البحث فى العقائد فنشأت معارك قلمية بين المثبتين والنافين تمحصت بسببها حقائق وتبينت حقائق وآمن بها من آمن عن بينة وألحد من ألحد على عهدته.. ونحن الآن فى مصر فى بحبوحة الحكم الدستورى نسلك من عالم الكتاب والتفكير هذا المنهاج نفسه.. فلا نضيق به ذرعاً ما دمنا نعتقد أننا على الحق، وأن هذا التسامح الذى يدعى أنه من ثمرات العصر الحاضر هو فى الحقيقة من نفحات الإسلام نفسه، ظهر به آباؤنا الأولون أيام كان لهم السلطان فى العالم كله فقد كان يجتمع المتباحثون فى مجلس واحد بين سنى ومعتزلى ومشبه ودهرى، فيتجاذبون أطراف المسائل المعضلة فلم يزدد الدين حيال هذه الحرية إلا هيبة فى النفوس وعظمة فى القلوب وكرامة فى التاريخ».