موقعة القطار العدوانية
فاروق عطية
السبت ٧ اكتوبر ٢٠١٧
فاروق عطية
نحن في شهر أكتوبر وفيه ذكري انتصار قواتنا الباسلة في معركة الكرامة وتحرير تراب الوطن (السادس من أكتوبر 1973)، هذا الانتصار الذي جعلنا نرفع رؤوسنا عاليا بعد أن نكسناها خجلا من الهزيمة القاسية التي حاقت بنا في السادس من يونيو 1967. ذكرني ذلك بأيامنا الخوالي أيام الصبا والشباب، وانبهارنا بحركة ضباط 23 يوليو 1952، رغم حبنا لمليكنا المعظّم الذي كنا نعتبره القدوة الحسنة للشباب، لكن الميديا وما تبثه من مغالطات عن الخيانة والأسلحة الفاسدة وفساد الأحزاب، جعلتنا نتنكر للديموقراطية ونفضل الديكتاتورية العسكرية ونعيش في وهم القومية العربية وننسي قوميتنا المصرية. صدقنا في هذا السن المبكر واقتنعنا بالثورة ومبادئ الثورة الستة التي ذكرها عبد الناصر في كتابه فلسفة الثورة، كما افتنعنا بأننا جيل التضحيات، وانبهرنا بكريزما جمال عبد الناصر وقوله المتكرر: ارفع رأسك يا أخي فقد مضي عهد الاستعباد فرفعنا رؤوسنا عالية حتي عنان السماء، ثم فوجئنا بالنكسة التي جعلتنا ننكس رؤوسنا حتي لامست التراب.
في العام الدراسي 54/1955 كنت في الفصل الدراسي رابعة أول (علمي علوم). كان نظام الدراسة الثانوية علي أيامنا، دراسة عامة لجميع المواد في السنوات الثلاث الأولي، ثم يبدأ التخصص من السنة الرابعة إلي اتجاهين مختلفين، علمي وأدبي. القسم العلمي ينقسم إلي شقين(علمي علوم وعلمي رياضة). في كلا شقي العلمي يدرّس فيه المواد العلمية كالكيمياء والفيزياء والرياضيات والأحياء إضافة إلي اللغات الثلاث (عربي، إنجليزي وفرنسي). في الشق العلمي علوم تدرس مادة الأحياء (حيوان ونبات) بتوسع، وهذا الشق يؤهل لدخول الكليات الجامعية طب وصيدلة وطب اسنان وطب بيطري وعلوم وزراعة وتجارة. أما في الشق علمي رياضة تدرّس مادة الرياضيات أكثر توسعا (إضافة التفاضل والتكامل) وهذا الشق يؤهل لدخول الكليات الجامعية السابق ذكرها إضافة لكليات الهندسة.
القسم الأدبي أيضا ينقسم إلي شقين (أدبي فلسفة وأدبي رياضة). في كلا شقي القسم الأدبي يدرّس الجغرافيا والتاريخ والفلسفة إضافة إلي اللغات الثلاث (عربي، انجليزي وفرنسي). في الشق أدبي فلسفة يدرّس الفلسفة بتوسع (إضافة المنطق)، وهذا الشق يؤهل لدخول الكليات الجامعية كالآداب والحقوق. أما في الشق أدبي رياضة تدرّس الرياضة (تفاضل وتكامل) وهذا الشق يؤهل لدخول الكليات الجامعية كالآداب والحقوق والتجارة.
هذه السنة الدراسية غيّرت مجري حياتي تماما. كنت أحب التاريخ والجغرافيا أكثر من المواد العلمية، وكنت قارئا جيدا للفلسفة والمنطق وأهوي الكتابة الأدبية، وكنت أرتب حياتي لأكون كاتبا أو أديبا أو صحافيا. وكانت المدرسة آليا تضع المتفوقين علميا في القسم العلمي والمتفوقين في المواد الأدبية في القسم الأدبي. وكانت درجاتي في جميع المواد والحمد لله تشير لتفوقي في جميع المواد مع تميز طفيف في المواد الأدبية لذلك وضعتني المدرسة في القسم الأدبي. و حين بدأت الدراسة سمعت همس الزملاء الذين كنا نتنافس علي الأولوية يرددون أنني دخلت القسم الأدبي خوفا من المنافسة، فأغضبني ذلك وتوجهت إلي مكتب حضرة الناظر وطلبت نقلي للقسم العلمي، فأجاب طلبي بعد أن نصحني بالاستمرار في القسم الأدبي وإصراري علي الرفض. والآن أندم علي هذا القرار حين لا ينفع الندم. وليس هذا القرار هو القرار الأخير الخاطئ في حياتي، فما أكثر القرارات الخاطئة..!!
في الإجازة الصيفية للعام الدراسي السابق حدثت تطورات درامية في الصراع علي السلطة، فقد نجح عبدالناصر بالاشتراك مع صديقه الحميم عبد الحكيم عامر في تكوين مجموعات داخل مختلف أسلحة الجيش من الضباط المتوسطي الرتب المنتمين إلى «الضباط الأحرار»، وهي المجموعات التي عهد إليها أداء أدوار مهمة في أزمتي فبراير ومارس 1954، إذ أجهضت المساعي الرامية إلى حل مجلس قيادة الثورة أو إعادة العمل بالدستور والحريات والحياة النيابية في البلاد. كما عملت على استبقاء السلطة في أيدي عبدالناصر وعامر وباقي أعضاء المجلس؛ إيماناً بأن ذلك هو السبيل الأمثل لإنقاذ الوطن.
وعلى رغم محاولة تدارك مظاهر الخلاف بين ناصر ونجيب، ولو ظاهرياً، بقبول مجلس قيادة الثورة عودة محمد نجيب لرئاسة الجمهورية دون مناصب أخرى، عِبر بيان صدر 27 فبراير 1954، مع تولي عبدالناصر رئاسة مجلس الوزراء في 17 أبريل من نفس العام، جاءت محاولة اغتيال ناصرعلى يد جماعة «الإخوان المسلمين» بالمنشية في 26 أكتوبر، وما أشارت إليه التحقيقات وقتها، من وجود اتصالات بين نجيب وقيادات إخوانية لا تستبعد تأييده مساعيهم لقلب نظام الحكم، لتصعد بمستويات الصراع إلى ذروته. وهكذا؛ قرر مجلس قيادة الثورة في 14 نوفمبر 1954 إعفاء نجيب من مناصبه كافة وتحديد إقامته بفيلا زينب الوكيل ليبقى خارج الحياة العامة حتى وفاته في أغسطس 1984، على أن يظل منصب رئيس الجمهورية شاغراً وأن يستمر مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته بقيادة جمال عبدالناصر، حتى تولى ناصر منصبه كثاني رئيس للجمهورية بموجب استفتاء شعبي أُجري في 24 يونيو 1956.
خلال العام الدراسي كنت مواظبا علي التدرينات العسكرية في الفرقة المشكلة بقيادة الأستاذ إبراهيم وصفي مدرس مادة الأحياء (ضابط احتياط). وبعد انتهاء العام الدراسي وأداء امتحانات نهاية العام قررت القيادة السياسية للبلاد عمل معسكر تدريبي لشباب الفرق العسكرية بالمدارس الثانوية بمنطقة المكس بالإسكندرية. وفي أول يوليو 1955 خُصِص قطار يقوم من مدينة أسوان إلي مدينة الإسكندرية، كل عربة منه مخصصة لفرقتي مدرستين. كانت العربة الرابعة المقررة لمدرستنا مشاركة مع مدرسة قنا الثانوية. عندما وصل القطار إلي محطة مدينة طهطا، حاولنا الصعود للعربة المخصصة لنا فلم نجد مكانا خاليا، فقد احتل كل طالب من طلبة قنا مقعدا كاملا ينام عليه، ورفضوا مشاركتنا لهم ودفعونا خارجا وأغلقوا باب العربة لمنعنا من الصعود. ولم يكتفوا بذلك بل أمطرونا وأمطروا المحطة قذفا بالحجارة والزلط مما أدي لتحطيم جميع زجاج نوافذ المحطة وإصابة بعضنا بالرضوض,
قام الأستاذ إبراهيم وصفي ضابط الفرقة بإبلاغ القيادة بما حدث، وسافرنا في اليوم التالي بالقطار العادي المتوجه للقاهرة ومنها إلي الإسكندرية بعد حجز عدد من المقاعد المناسبة المخصصة لنا. وفي اليوم التالي لوصولنا، حضر القائد العام للمعسكر اللواء علي علي عامر طابور الصباح، وأمر ضابطي الفرقتين (قنا وطهطا) أن يقفا طابورين متواجهين، وقفنا متواجهين كما أمرنا، مر اللواء علي علي عامر بين الطبورين عدة مرات دون أن يصدر أي أمر، وفجأة توقف في نهاية الطبورين وأصدر أمرا بالاقتتال بين الفريقين فلم نتحرك فأصدر الأمر مرة أخري بطريقة حاسمة، فانبري جاويش فريق قنا قائلا: يا افندم نحن جئنا لتلقي التدريبات العسكرية حتي نكون قادرين علي الدفاع عن الوطن عند الحاجة. فاستدار اللواء إليه وصفعة صفعة قوية أوقعته أرضا وصاح فيه: لما أنتوا عارفين يا أولاد الكلب أن العسكرية فقط للدفاع عن الوطن، ليه تعديتوا علي زملائكم وحطمتوا زجاج المحطة بالطوب والحجارة ؟ ثم أردف بعد صمت طويل: أقسم بالله لو سمعت أنكم قمتم بأي عدوان علي أي فرد مرة أخري لأشردنكم جميعا وأرفتنكم من مدارسكم وأجندكم كجنود غير متعلمين وأعلمكم كيف يكون العقاب علي أصوله، ثم استدار وانصرف.
بعد انتهاء المعسكر وقبل بداية العام الدراسي الجديد توجهت إلي الأقصر لزيارة بعض الأقارب ومشاهدة آثار مصر الخالدة. وأثناء تجوالي بين أعمدة معبد الكرنك الجميلة، فجأة نظرت حولي فوجدت ثلاث من طلبة قنا الثانوية الذين كانوا معنا في المعسكر يحيطون بي. سألني أحدهم قائلا: ألست أنت أحد أفراد الفرقة العسكرية لمدرسة طهطا الثانوية ؟ وقبل أن أجيبه كان الثلاثة قد اندفعوا نحوي وأوسعوني لكما وركلا دون أن أتمكن من الدفاع عن نفسي، فصرخت من شدة الألم لأصحو من نومي والعرق يتصبب من جبيني وأم العربي ترنو إلي وعلي وجهها ابتسامة شامتة ..!!