خريف الإعلام
مقالات مختارة | بقلم : أحمد المسلمانى
٠٠:
١٢
ص +02:00 EET
الثلاثاء ١٠ اكتوبر ٢٠١٧
لا «وفاء» لدى محررى الأخبار فى الصحف والشاشات.. ولا «إخلاص» لدى وسائل الإعلام. إنها تبدى اهتماماً أسطورياً حين تبدأ المأساة.. لكنها سرعان ما تترك البائسين لمصيرهم.. وتبحث عن جديد لكسر الملل.
يتصور الحمقى دوماً.. أن الكاميرات ستظل على وجوههم، وأن المراسلين سيتزاحمون فى طرقاتهم.. وأن الأضواء ستبقى تحيط بكل ما يجرى.. ليصبح العالم متفرغاً لأزماتهم وشاهداً على مصائرهم.
لا شىء من ذلك صحيحاً.. فكل الأزمات الدولية تبدأ فى صدر نشرات الأخبار، تمتلئ الطائرات والفنادق بكل مراسلى الصحف والمحطات.. كما تمتلئ مداخل المؤسسات وقاعات الانتظار بمن يتلهفون للبحث عن خبرٍ أو تصريح.
يجد المراسلون غنائم كبرى فى مشاهد القتل والدم، ويجدون سبقاً أسطورياً فى رصد المذابح وعمليات الإبادة. ويسعون فى أوقات كثيرة لرصد كافة التفاصيل المأساوية.. لأجل نشر كتابٍ أو إعداد فيلمٍ وثائقى.. أو وضع كامل المأساة فصلاً فى مذكراتهم.. يحكون عن متابعة موت الآلاف على اعتبار كونها مغامرات صحفية جرئية!.
كل هؤلاء يؤدون عملاً.. وهذا العمل يخضع لقواعد الاقتصاد، يخضع لسوق العرض والطلب.. ومن ثم فإن «تناقص المنفعة الحديّة».. وتراجع العوائد الخبرية والإعلامية.. يؤدى إلى الانصراف عن المأساة.. واعتبارها هى والعدم سواء.
تتحول المأساة من شاشات المحطات الكبرى.. والنشرات الرئيسية وبرامج الذروة.. إلى تعليقات على مواقع التواصل ومقاطع على يوتيوب.. لا يراها أحد.. هى صرخاتٌ فى البريّة. وأتذكر أننى حين زرت قناة الجزيرة فى الدوحة قبيل وبعد الغزو الأمريكى للعراق.. وكنت وقتها «الباحث الرئيسى» فى قناة أبوظبى.. كان الكل يتحدث على نحو حماسى.. يوحى بأن هؤلاء جميعاً لن يتركوا لحظة ممّا يجرى دون تغطية، وتحليل، وشرحٍ وتوضيح.. وبالطبع مبادئ ومواقف.
لقد حدث ذلك لبعض الوقت.. كانت بغداد تضىء بصواريخ أمريكا وكاميرات العالم معاً.. وكان المراسلون والجنرالات هم سادة الأرض من كركوك إلى البصرة.. وهم الحاكم الفعلى فى بغداد.
مرت الشهور والسنوات.. خفت الضوء ثم انطفأ.. لا كاميرات ولا كلمات.. راح البؤساء يواجهون الاحتلال والإرهاب واليورانيوم المخصب.. وحدهم، ومن دون أحد.
كان موت شخص واحد يعنى الكثير لوسائل الإعلام، وكان وقوع انفجار واحد يعنى طوارئ فى غرف الأخبار وصالات التحرير. لم يعد هناك شىء من ذلك.
مات مليون عراقى.. امتلأ العراق بسرادقات العزاء.. وامتلأ ما بقى من المستشفيات بنصفِ بشرٍ ونصفِ جثثٍ.. هم أقرب إلى الموت منهم إلى الحياة.
هلك الحرث والنسل.. وتوافرت كتائب البوم الناعقة من كل حدبٍ وصوب.. عملاء وجهلاء.. بعضهم لبعض عدو.. وكلهم أعداءٌ للعراق.
من المؤكد أن الشعب العراقى قد تساءل: أين الكاميرات التى كانت؟، وأين الضمير العالمى الذى قال إنه سيراقب.. أين الضيوف من الخبراء والمحللين.. ومن النشطاء والمراقبين؟.. أين الصحفيون الذين شكلّوا ذات يوم نصف السكان.. لينقلوا للعالم كل شىء؟.
بات المشهد أقرب إلى قول الشاعر: هذا الزحام لا أحد. خَذَلّ الإعلام كل قضايا العالم.. يوجد حيث يوجد العائد، ويرحل حين تقلّ المشاهدة أو يهبط التوزيع.. أو تتراجع مرّات الدخول إلى الخبر.
إن ما حدث فى العراق.. حدث من قبل فى أفغانستان. كانت محطات العالم تنقل هزيمة طالبان، وكان آلاف الصحفيين يدخلون البلاد من كل اتجاه.. لنقل كل شىء.. كانت الكاميرات تنقل ما يجرى فى كابول فيما يشبه تليفزيون الواقع.. أو كأنَّه إحدى حلقات برنامج «ستار أكاديمى».
مضتْ أفغانستان هى الأخرى إلى مصيرها.. ماتَ عدد كبير.. ورحلّ عدد أكبر.. وعادت طالبان تحكم نصف أفغانستان.. ثم جاءت داعش لتصارع طالبان.. ولم يكن هناك من يتابع كما كان.. ولا من يشرح كما سبق. أصبح الأمرُ ببساطةٍ شديدة.. شيئاً مملاً.. ولم يعد قارئ أو مشاهد يُقبِل على متابعة ذلك البلد البائس.. الذى بات تكرار الموت فيه يدعو للتثاؤب!.
يا لقسوة السياسة، ويا لخِسَّةِ الإعلام.. يا لتلك البلاهة والنذالة.. يا لتلك الحماقة التى تحكم السياسة.. وتلك النذالة التى تحكم الكاميرات.
كم هو محزنٌ بلا حدود.. أنْ يقتل بعض السياسيين بلا عقل.. وأن يتعامل بعض الإعلاميين بلا قلب.. أن تصبح أوجاع الشعوب مادةً للتسلية، وأن تصبح بحار الدمّ مجرد «بحث» فى علم السياسة.. أو «دراسة جدوى» فى علم الاقتصاد.
حفظ الله الجيش.. حفظ الله مصر
نقلا عن المصرى اليوم