هل تذكرون الدكتور محمود عزب؟
مقالات مختارة | بقلم :فاطمة ناعوت
١٧:
٠٤
م +02:00 EET
الخميس ٢ نوفمبر ٢٠١٧
لا أدرى لماذا تذكَّرت ذلك الرجل النبيل، حين أرسل لى إمامُ مسجد «فاطمة الزهراء» بالبحر الأحمر، يطلب منى عمل أى شىء يُحسِّن الصورة السيئة التى أخذها مسيحيو مصر، والعالم، عن المسلمين عمومًا، وعن رجال الدين الإسلامى على وجه الخصوص. إمام ذلك المسجد اسمه الشيخ «محمد خليل جاد»، وسوف أفردُ له مقالاً مستقلاً الأسبوع القادم بإذن الله، حتى تندهشوا معى مما يفعل من أجل نُصرة الإسلام عن طريق إشاعة المحبة والتوادِّ والتراحم، لغير المسلمين.
وأما بطل مقالى اليوم، النبيل الذى تذكَّرته، وإن لم أنسه يومًا، فهو العظيم د. محمود عزب، أستاذ الحضارات الإسلامية واللغات السامية، ومستشار شيخ الأزهر السابق لشؤون الحوار بين الأديان. هذا الرجل الموسوعى النظيف الذى درس اللغات الآرمية والسريانية والحبشية وحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية، وعمل أستاذًا بها. أدرك الرجلُ بفطنته أن ما ينقص العرب هو «ثقافة الحوار»، لهذا كان حلمه أن يقدم «فقه الحوار» كمادة مستقلَّة تُدرَّس ليس فقط فى جامعات مصر، بل كذلك فى مدارسها، حتى تكون جزءًا من التركيبة الذهنية للطالب المصرى، فينشأ صحيحًا معافى يعرف كيف يحاور ويختلف، ولا يكره، ولا يختصم، ولا يقتل. تقدَّم الرجلُ بذلك المشروع الثرى المحترم لشيخ الأزهر د. أحمد الطيب، ولكن بالطبع، مات المشروعُ مع موت الرجل النبيل!
فى ربيع ٢٠٠٣، كانت المرةُ الأولى التى أقفُ فيها على خشبة مسرح فرنسى لألقى قصائدى. شعرتُ بشىء من الرهبة أمام جمهور «معهد العالم العربى» فى باريس. لكن الله أرسل لى يدًا حانية تُصافحنى قبل صعودى إلى المنصَّة وتشدُّ من أزرى وتشجعنى، ثم تقول لى بعدما أنتهى: «أحسنتِ»!
كانت اليدُ المصافِحةُ: مصريةً مثقفةً. وكانت الكلماتُ: داعمةً طيبة غمرتنى بالثقة والاطمئنان. كانت يدَ رجلٍ عظيم فكرًا وروحًا. فقيهٌ إسلامىٌّ أزهرى، وفيلسوفٌ رفيع الطراز. حاملُ مشعل تنويرىّ، تسلَّمه من أساتذته: محمد عبده، ومَن سبقه من تنويريين وصولاً إلى نجم التنوير الإسلامى «الوليد بن رشد».
صافحنى بحنوِّ الأستاذ على ابنةٍ جاءت من حقل العلم والهندسة إلى حقل الآداب والشِّعر، تحمل قلقًا من الإخفاق الذى يلازم تحويل المسارات. ابتسم وقال: «سوف تُبهرين الجميع بقصائدك وإلقائك ولُغتك العربية الرصينة. اتركى قلقَك هنا، وارتقى المنصَّة واثقةً، ففى سَلَّتك عراقةُ بلادك، مصر». وارتقيتُ المنصَّة وقرأت قصائدى وصفَّق الجمهور، وعيناى مثبتتان صوب ذلك الرجل النبيل الذى كان الملاك الحارس لى فى باريس، مثلما هو الحصنُ الحامى لكل مصرىٍّ ومصرية يزوران فرنسا للعلم أو العمل. بعد نزولى عن المنصَّة صافحنى مجددًا وقدَّم لى ابنته الجميلة «لما» قائلاَ: «أتمنى أن أرى ابنتى مثلك».
هو الدكتور محمود عزب، أستاذ كرسى بجامعة الأزهر، ومعهد اللغات الشرقية فى باريس، ومستشار شيخ الأزهر.
يقول التاريخُ إن هذا النبيل قد رحل فى يونيو ٢٠١٤، وأقول: لا لم يرحل! إنما اختار أن ينتقل من العيش بيننا إلى العيش داخل أفكارنا. ومَن يعش فى الأفكار لا يرحل. لأن عائشَ الأفكار عابرٌ للزمان وعابرٌ للمكان.
لا عجب أن يُحفر اسمُه فى ذاكرتى وذاكرة مصر، فقد كان نصيرَ التنوير وإعمال العقل والتظلل بمظلَّة الإنسانية. ولا عجب فى أن شيَّع جثمان ذاك الأزهرىّ النبيل قساوسةٌ ورهبانٌ وملايين من أقباط مصر المسيحيين، فقد كان رائدًا فى حوار الأديان والتقريب بين فكر المسلم وفكر المسيحى وإشاعة روح التآخى الحق بينهما. ولا عجب فى أن تحزن نساءُ مصر جميعهن على سفره للسماء، فقد أحبَّ المرأةَ واحترمها فقدَّس أمَّه وبجَّل زوجته واحترم ابنتيه. ولا عجب فى أن تطلبَ مصرُ من المصريين أن يحملوا المشعلَ الهائل الذى تركه لنا كتراث عزيز لا ينفد، فقد أحبَّ مصرَ بكل جوارحه وأشاع فى جنباتها النورَ والتحضر. أستاذى الكبير، نمْ ملءَ جفونك عن شواردها، فجميعنا تلامذتك وحاملو مشعلك، الذى لن يخبو.
نقلا عن المصرى اليوم