الخطيئة الأولى والثقب الأسود
مقالات مختارة | نوال السعداوي
الاثنين ٦ نوفمبر ٢٠١٧
كنت أشارك أخى الألعاب التى احتكرها الصبيان، كرة القدم وكرة السلة وركوب الدراجة، كانت أمى تشجعنى على الرياضة التى حُرِمَتْ منها فى طفولتها، حركة الجسم دون قيود، الجرى بأقصى سرعتى وراء الكرة، وقذفها فى الهدف «الجون» بقدم واحدة، أو بيديى الاثنتين فى السلة، والطيران فوق العجلة فى الفضاء لألمس النجوم.
هذه اللحظات كانت متعة حياتى فى طفولتى التى مضت بسرعة مذهلة، لأصبح فتاة ناضجة وأنا فى العاشرة من عمرى، كان المجتمع يحرص على حفظ البنت محنطة حتى يأخذها الزوج أو الرب، وإن قفزت عالياً فى الهواء يضطرب الكون وكوكب الأرض، قد يتمزق الغشاء الرقيق ويتبدد شرف الأمة والعائلة، لا يقبل العريس ابنتهم إلا معقمة، لم يمسسها إنس أو جن، قطة مغمضة عمياء، ملفوفة بالكفن والطرحة البيضاء، يهبط الاكتئاب بعد ليلة الفرح على البنات، لا تبوح الواحدة منهن بالحزن، تبتسم فى سعادة، خوفاً من الاتهام بنقصان الأنوثة أو الشذوذ والعصيان.
فى العاشرة من عمرى كاد رجل، من عمر جدى، أن يكون زوجى، لولا أمى أنقذتنى، كان الزواج يبتلع البنات كالثقب الأسود (بلغة علم الفيزياء) فى جوفه يكون العدم، يبتلع النجوم وشعاع أى ضوء، تموت النجمة الطفلة قبل أن تعيش، وكان أخوها الطفل يحلم بأن يكون ضابطاً بالجيش، يتباهى أمام البنات بالنجوم فوق كتفيه، لم تكن مصر تدخل الحرب إلا بأمر قوة تتخفى فى الضباب وراء البحار، يموت الجنود المصريون بدل الإنجليز، فى حرب لا علاقة لها بشعب مصر، يعود الضباط الكبار من الحروب سالمين، يحصلون على البطولة والنياشين.
أسترجع ذكريات الماضى، وأتابع هذا السؤال الذى يتردد اليوم: لماذا ينضم الأولاد والبنات للمنظمات الدينية الإرهابية؟ قليلاً ما نبحث عن أصل المشكلة، الفعل الإرهابى الأول فى طفولتنا، الخطيئة الأولى التى تولد الثقافة القائمة على العنف، لكن بمجلة روزاليوسف الأسبوعية قرأنا مقالا بعنوان «أبى، لا تهن هذه المرأة، إنها أمى» كشفت فيه الكاتبة، د. منى حلمى، عن عملية تفريخ الفكر الإرهابى فى الأسرة، وكيف تتحول الطفلة أو الطفل إلى شخص عنيف دموى.
إهانة الأم أمام أطفالها هى البذرة الأولى، التى تنتج الشخصية الإرهابية، التى وإن لم تقتل بالسيف أو الرصاص فهى تقتل بوسائل أخرى، قد تكون أكثر فتكاً، منها الكذب والخداع والخيانة والسرقة والازدواجية، أول خلل يصيب الطفل أن يرى أمه، مصدر الحب والأمان، مهانة بالكلمات والألفاظ الجارحة، أو مهددة بالضرب، أو الطرد بكلمة ينطقها أبوه (طالق) يتعرض الطفل لتناقض مؤلم يرسخ فى اللاوعى، يرى الأمومة الطاهرة، منبع العطاء والتضحية، ملقاة أمام عينيه تنزف ألماً، يعانى الطفل من الخوف والعجز مع تأنيب الضمير، بسبب التقصير فى حماية أمه، بل يضطر للمشاركة فى إهانتها، تملقاً لأبيه صاحب السلطة، أو تكيفاً مع الثقافة الذكورية والقيم، التى تهين النساء وتفرض عليهن الدونية، يشعر الطفل بالعار إن نطق اسم أمه أمام زملائه بالمدرسة، يعانى صراعاً نفسياً عنيفاً، بين كتمان الحقيقة أو الكشف عنها، يتمزق بين حبه لأمه واحتقاره لها، بين احترامه لأبيه وكراهيته له، يكبر الطفل ليكون رجلاً مزدوج الشخصية، يخاف الأب ويطيعه، يكره السلطة ويسعى إليها، يحب المرأة ويحتقرها، يتحول الخوف والعجز وتأنيب الضمير (فى أعماقه) إلى كراهية وعنف تجاه نفسه والمجتمع، يصبح عدو نفسه والآخرين فى آن واحد، لا يعرف العدو من الصديق، ينتظر رئيسه أو صاحب السلطة ليعطيه الأمر، قد يتحول الصديق إلى عدو، أو العكس، قد يقتل الصبى أقرب الناس إليه «أمه» التى تضحى بحياتها من أجله، لأن رئيسه بالجماعة اتهمها بالكفر وأمره بقتلها، شهدنا هذا الصبى فى فيلم «الأبواب المغلقة» كتبه وأخرجه (عاطف حتاتة) فى نهاية تسعينيات القرن الماضى.
العالم ملىء بالحروب والظلم، قائم على العنف المكبوت منذ الطفولة فى نفوس الأولاد والبنات، اللائى يتعرضن لظلم مضاعف، بسبب القيم الأبوية الموروثة منذ آلاف السنين، تسيطر الذكورة البيولوجية سياسياً ودينياً واجتماعياً وأخلاقياً، تتحكم قوة المال والسلاح والإعلام فى الشعوب الفقيرة مادياً بالنهب الاقتصادى، المغيبة فكرياً بنظم التجهيل (التعليم) السياسية الدينية، شرقاً وغرباً.
أغلب الآباء والحكام الإرهابيين كانوا أطفالاً تعساء مكبوتين، نشأوا مع أمهات مقهورات وآباء قاهرين، يتحول المقهور (فى علم النفس) إلى قاهر لذاته والآخرين، لمجرد التنفيس عن الخوف والعجز المتراكمين فى اللاوعى، أغلب النبلاء (الرجال والنساء) نشأوا مع أمهات محترمات ذوات كرامة، وآباء محترمين دون تسلط، يفخر الابن باسم أمه، ويعلن للناس «هذا من فضل أمى التى صنعتنى» يتحول اسم الأم إلى الشرف بدل العار، وتتحول الخطيئة الأولى من إثم المرأة والمعرفة، إلى إثم الرجل الذى أهان المرأة والمعرفة، وألقى ابنته، وهى مغمضة العينين، فى الثقب الأسود.
نقلا عن المصري اليوم