أنا مايسة المفتى يا أفندم!
مقالات مختارة | مفيد فوزي
الاثنين ٢٠ نوفمبر ٢٠١٧
(1)
أنا مايسة أنور المفتى أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس، تعلمت فضيلة العطاء بلا حدود من والدى، فى شبابنا كان لنا مثل أعلى نقتدى به، مازالت عبارته تطن فى أذنى: «الناس أهم من ذواتنا». وكان يقول «أنت لست محور العالم» وكانت أهم نصائحه الغالية «إذا أوتيت علماً، انثره على بقية الناس»، جئت إليك لأنى كنت أراك تجوب قرى مصر ونجوعها بعدسات حديث المدينة، كنت أراك تصرخ أمام الطلمبات الحبشية مصدر المياه الوحيد، وكنت أراك «تستجوب» المسؤول أينما كان موقعه، لهذا قصدت حماساً لا يزال نابضاً فيك فى قضية أعلم من قراءتى لسطورك أنها تؤرقك، والواقع أنها تؤرق كل مصرى وهى الأمية، الوصمة فى جبين مصر، ولو كانت الحرب على الأمية واحدا من البنود الستة لثورة يوليو 52، لكنا فى مصاف شعوب العالم الراقية. جئت أشرح لك جهداً متواضعاً فى حرب الأمية وأعرف أنك لن تبخل بالإشارة إليه على الورق أو فوق شاشة، لقد عرضت على نائب رئيس الجامعة وقتئذ د. عبدالوهاب عزت فكرة بسيطة وهى حبذا لو شارك شباب الجامعات فى الحرب على الأمية، وقرأت مقالك عن «الرهان على الشباب» ولفت نظرى تقديرك لشباب الرئاسة، دعنى أهمس فى أذنك أن فى مصر شباب جامعات ليس رئاسياً ولديه طاقة للعمل والعطاء، المهم أن الفكرة حازت قبولاً ولم يبق سوى آليات التنفيذ. أكرر لك ما أنا إلا همزة وصل لأطراف أخرى ساهمت واحتضنت الفكرة، ذلك أن أحد تلاميذى فى آداب عين شمس هو مدير التدريب فى أسقفية الخدمات الأرثوذكسية، حمل الفكرة إلى البابا تواضروس فتحمس لها وأمر بأن يكون تدريب الطلبة على تعليم الأميين على نفقة الكنيسة فى الوقت الذى طلبت فيه جهات أخرى منا ثمناً للتدريب!!. ومن الأمانة مصارحتك بأنه تسربت دموعى وأنا أستمع لمبادرة البابا فهذه هى مصر فى جوهرها بعد تنقيتها من الشوائب، هذه مصر السبيكة الفولاذية حين تتعانق مئذنة المسجد مع أجراس الكنيسة تدعو للصلاة لرب واحد، وبعد موافقة البابا نقلت الفكرة وآليات التنفيذ للمجلس الأعلى للجامعات وتقابلنا مع رؤساء الجامعات ونوابهم، البعض تحمس ضعف حماسى والبعض تردد قليلاً، والبعض ردد لى ما قاله محب الرافعى، أحد وزراء التعليم فى وقت ما «نمحو الأمية خلال 30 سنة»، وكم كان القول محبطاً، لكننا بدأنا نعد قافلة من شباب الجامعات تريد أن تمحو الوصمة بخطوة قبل الألف ميل، قافلة تتجاوز إحباط العجائز.
(2)
دخلت الأمور - يا أفندم - حيز بروتوكول بين المجلس الأعلى للجامعات والكنيسة الأرثوذكسية، وبدأت المحاضرات بأسلوب جديد غير تقليدى لا يعتمد على الحروف الأبجدية ولا يعتمد على الحفظ، ولا على تشبيه الألف بكوز الذرة، إنما يعتمد على التواصل فوق مسيرة فى ظل شجرة، يحكون عن مشاكلهم ويدخل «التعلم» ضمن الاحتياجات الحياتية، ذلك كان الهيكل لمشروع مصر القومى للقضاء على الأمية بمشاركة طلبة الجامعة وانطلقنا بأسلوب «تربوية النص» وهى فكرة مبتكرة نفذت فى أمريكا اللاتينية ثم دخلت لبنان على يد د. زاهى عازار وجاءت مصر وترتبط بحق أساسى من حقوق الإنسان هو حقه فى «أن يتعلم»، ولو فكرنا قليلاً يا أفندم لاكتشفنا أن الحرب على الأمية «أمن وطنى»، إنها عملية إزالة عفونة العقول، وبدأ الأميون يدخلون الفصول المعدة لاستقبالهم، بعضهم وجد صعوبة فى اللحاق بالفصول فى وقت عمله، مصدر رزقه، وساندنا من أساتذة الجامعات د. حسام عيسى وكان وزيراً للتعليم ود. أحمد البرعى وكان وزيراً للتضامن، وساهمت معنا وزارة الشباب والرياضة بتخصيص مراكزها لاستقبال الأميين والانتظام. وفى الجيزة على سبيل المثال قامت فى صمت شديد وتجرد كامل وإنكار للذات د. منال عوض بمشروع محو أمية فى إمبابة ونجحت فى اجتذاب الأميين، إن د. منال عوض هى نائب محافظ الجيزة وهى علامة من علامات الضياء ولا يهمها اسمها أو منصبها، فقط يهمها أن تجد أمياً «يفك الخط ويمسك بقلم ويطالع صحيفة». فى دمنهور رئيس الجامعة د. صالح عبيد فتح لنا مئات الفصول وذهب للفلاحين فى الغيطان يسمع منهم صدى التجربة. إن أكثر من ألف طالب جامعى حضروا ندوة «القضاء على الأمية فريضة وواجب قومى»، الواحد منهم يحصل على مكافأة رمزية «200 جنيه» وقرر بنك مصر أن يمنح المتفوقين فى مجال محو أمية أكبر عدد خمسة آلاف جنيه، تخيل - يا أفندم - فى مصر هيئة كبيرة لتعليم الكبار ومحو الأمية ميزانيتها بالملايين، ليتك تتابع حصادها، فلست أحلم إلا بتوحيد الجهود نحو الهدف الأسمى وهو «مصر بدون أمية»، هل تعلم أن فى مصر 28 مليون أمى، هل تعلم أن 18٪ متسربون من التعليم؟ ومازالت نسبة الأمية بين النساء قيد الحصر، لقد اقتربنا من محو أمية ربع مليون، إن مؤتمراً عقد فى وزارة الدفاع، نعم فى وزارة الدفاع، حول قضية محو الأمية وهذا يدل على أن القضية محورية وعلى أجندة الدولة.
(3)
إن الغرف التجارية - مثلاً - اشترطت الحصول على شهادة محو الأمية للحصول على تراخيص، وفى جامعة الأزهر يكلف كل طالب بمحو أمية أى عدد تتيحه ظروفه، نعم، أتفهم خوفك من التشتت فى الرئاسات وأتفهم رغبتك الكبيرة فى أن يكون القضاء على الأمية «مشروع مصر القومى»، وأتفهم حرصك أن يكون العمل تحت مظلة رئاسة الجمهورية لضمان بلوغ الأهداف العليا، وما أنا يا أستاذ مفيد إلا «مقررة عامة للمشروع» مجرد «صامولة» صغيرة فى ماكينة ضخمة تعمل بطاقة الحماس لنهضة وطن، تابعنا أرجوك واكتب منتقداً لتصويب أخطاء قد نقع فيها، نسترشد بتجربة كاسترو فى القضاء على الأمية فى عام واحد. نحتاج لتحديد توقيت للمهمة، إن الأمية تقطع حبل التواصل بين الحاكم والمحكوم ويهمنا التواصل بين قاعدة الهرم وقمته.
نقلا عن المصري اليوم