أسئلة الأطفال وتجديد الفكر الدينى
مقالات مختارة | نوال السعداوي
الاثنين ٢٠ نوفمبر ٢٠١٧
فى المدرسة الابتدائية كنت أحب حصة الموسيقى أكثر من حصة الدين، كانت الأوامر تأتى من وزارة المعارف العمومية إلى جميع المدارس الحكومية والخاصة، بفصل الأطفال المسلمين عن غيرهم فى حصة الدين، وتخرج صديقتاى «إزيس وسارة» من الفصل تحملان الكتاب المقدس، حين يدخل مصطفى أفندى حاملا القرآن، وأكتم الأسئلة فى أعماقى مع الألم، حين يعلن المدرس أن الله سوف يحرق «إزيس وسارة» فى نار جهنم الحمراء، ومعهما جميع الكفار غير المؤمنين بسيدنا محمد.
لم أفهم شيئا من الآيات التى يأمرنا مصطفى أفندى بحفظها عن ظهر قلب، يضربنى بحافة المسطرة على أصابعى حتى يسيل منها الدم، إن أخطأت النطق، أو راودنى سؤال، لكن فى حصة الموسيقى كنت أغنى، وأرقص على أنغام البيانو والعود، ومعى إزيس وسارة وكل الأطفال يغنون، ويرقصون، دون أن يفصل بيننا أحد، أو يضربنا بالمسطرة إن أخطأنا أو نطقنا بسؤال.
وكان مصطفى أفندى يغضب إن رفعت أصبعى لأسأله عن شىء لا أفهمه، وينهرنى قائلا: «احفظى ولا تسألى، فالله لا يحب السؤال». وكان أبى يقول لى إن مصطفى أفندى لا يفهم معنى الله، لأن الله يعنى المعرفة والوضوح وليس الغموض وتغطية العقل بالحجاب، وفى يوم قال لنا مصطفى أفندى إن الله خلق الكون فى ستة إيام، وكان جميع الأطفال فى الفصل يعرفون ذلك، لكن السؤال كان يدور فى الرؤوس: ومن خلق الله؟ وأسئلة متعددة بديهية.
كان مصطفى أفندى يتظاهر بعدم رؤية أصبعى المرفوع، وأشكو لأمى فتقول: دافعى عن حقك فى السؤال، وكانت طفلة فى الفصل (أصغر منى) قد سألت: ومن خلق الله؟ لم يرد عليها مصطفى أفندى، لكنه لم يغضب منها، فتشجعت، وسألت: وماذا كان يعمل الله قبل أن يخلق الكون؟ حملق مصطفى أفندى بعينين جاحظتين من وراء نظارته البيصاء وصاح غاضبا: «كان الله يجهز النار لمن يطرح هذا السؤال».
كانت فكرة الحرق فى النار ترعبنى مثل كل الأطفال، لكن الخوف تضاعف بعد هذا اليوم، تصورت أن الله يجهز النار لحرقى، أنا بالذات، دون جميع الأطفال فى الفصل، لأن رأسى مدنس بالأسئلة المحرمة كما يقول مصطفى أفندى، ولأن الله أمرنى أن أغطى رأسى العارى بالحجاب فلم أفعل، وعدت إلى أمى أرتعد خوفا، وفى اليوم التالى جاء أبى إلى الفصل ومعه الناظرة، كان أبى مديرا للتعليم بوزارة المعارف، يخشاه النظار والمدرسون، وقال أبى لمصطفى أفندى: «لم يأمر الله المرأة بتغطية رأسها إلا وهى تصلى»، ولم يعد مصطفى أفندى يتحدث عن تغطية رأسى، وكانت أوامر وزارة المعارف حينئذ، فى الأربعينيات من القرن الماضى، لا تشمل تحجيب البنات، كما حدث، بعد خمسة وثلاثين عاما، تحت حكم السادات، حين شهدنا التلميذات بالمدارس الابتدائية محجبات.
وسألت أبى: ولماذا أغطى رأسى أثناء الصلاة؟ قال: «احتراما لله وأنت واقفة بين يديه». قلت: لكن أخى يصلى دون أن يغطى رأسه، فهل هو لا يحترم الله؟ لم يرد أبى، وقالت أمى: الأديان تفرق بين الرجل والمرأة وليس الإسلام فقط، وسألت: ولماذا تفرق الأديان بين المرأة والرجل؟ هنا سكتت أمى لكن الأسئلة فى رأسى لم تسكت، وبدأ عقلى يتطور فى المدرسة الثانوية، وتطورت أسئلتى، وفى السادسة عشرة من عمرى حيرنى هذا السؤال: لماذا يحرق الله النصارى واليهود مع أنه يأمرنا (نحن المسلمين) بالإيمان بالأنبياء جميعا، على رأسهم سيدنا عيسى المسيح ابن مريم، وسيدنا موسى نبى اليهود؟ وسؤال آخر كان يدق عظام رأسى: لماذا يحرق الله الكفرة مع أنه قال «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»؟ ثم دخلت كلية الطب، وانهمكت فى تشريح الجسد والمخ وقراءة التاريخ والكتب خارج المناهج المقررة، كما بدأت الاعتماد على نفسى للإجابة عن الأسئلة الدائرة فى رأسى.
كنت أنظر فى عيون الزميلات، أبحث عن الأسئلة التى تؤرقنى، فلا أجد منها شيئا، وإن نطقت بسؤال عن شىء غير مفهوم، مثلا عمليات ختان الأطفال، تضع الزميلة يدها على فمى وتقول: اسكتى بلاش مشاكل، وأسألها: مشاكل مع مين؟ تقول: مع طوب الأرض، واكتشفت أن جميع أسئلتى البديهية منذ الطفولة كانت تدور فى رؤوس الزميلات والزملاء، لكن الخوف من الحرق فى النار كان يفرض عليهم الصمت والكتمان.
واليوم تعلو الأصوات، تطالب بتجديد الفكر الدينى، لكن هل يمكن تجديد الفكر الدينى دون اقتلاع الخوف الراسخ فى عقولنا من المهد إلى اللحد؟ دون تشجيع الأطفال على طرح الأسئلة البديهية؟ دون إلغاء الرقابة على المقالات البسيطة، مثل هذا المقال المنشور اليوم فى هذه الصحيفة الخاصة، ولم تنشره صحيفة قومية؟ وكم من مقالات (أو أجزاء منها) يحذفها مقص الرقيب! رغم الصيحات العالية بتجديد الفكر عامة، والفكر الدينى خاصة.
نقلا عن المصري اليوم