إيترو-عا... حعبى
مقالات مختارة | بقلم : فاطمة ناعوت
٣٣:
٠٨
ص +02:00 EET
الخميس ٣٠ نوفمبر ٢٠١٧
كان غضبُ المصريين عظيمًا، حينما قيلت كلمةٌ غيرُ مسؤولة عن هذا الإله العظيم، صانع الفرح، الذى لولاه ما كانت لمصرَ حياةٌ، ولا مجدٌ، ولا تاريخٌ، ولا كان لنا سلفٌ صالح. لهذا اختار جمهورُ صالونى الشهرى، الاثنين الماضى بمكتبة مصر الجديدة، أن تكون فقرة «مصريات»، عن «إيترو-عا»، الذى عشقَه أجدادُنا، ورهبوه، خافوا عليه، وخافوا منه، تودّدوا إليه، ودلّلوه، ووضعوا شروطًا صعبة للتعامل معه بحذرٍ، ورهنوا دخولَ الجنّة برضائه عنهم.
كلمةٌ تعسةٌ قالتها مطربةٌ شهيرة فى لحظة غياب، أقامت الدنيا وأشعلت غضبَ الذود عن شرف الأرض الطيبة التى لولاها ما سطر التاريخُ أول سطوره. ذلك الغضبُ العارمُ أنبأنى أن «چين» السلف الصالح الرفيع يسرى فى دمائنا حتى فى لحظة الرِّدّة الثقافية التى نمرُّ بها اليومَ.
اسمه «إيترو-عا»، وتعنى باللغة المصرية: «النهر العظيم»، ومنها جاءت كلمة التُّرعة. هو ذاك النهر الوسيمُ الذى بفضله نشأت حضارتُنا الماجدة لتُحيّر علماء الدنيا فى الفلك والفيزياء والكيمياء والطب والهندسة والمعمار والرقص والموسيقى والتشكيل والنحت والدراما والأزياء والآداب والسياسة والدين. لابد من استرضائه حتى يفى بعهده ويأتى فى منسوبه المضبوط فى عيد «الوفاء»، فترتوى الأرضُ وتُشرقُ الزهورُ وتخضرُّ الأشجارُ وتُثمرُ الثمارُ، ويشربُ الطيرُ فيصدحُ، ويرتوى الإنسانُ فيحيا ويُبدع. فإن حَزن النهرُ وجفَّ ماؤه، انكسر الغصنُ وجاع الإنسانُ والحيوان وعَمَّ الخرابُ. وإن غضبَ وفاض ماؤه، أغرق الأرضَ والدورَ وعمَّ الخراب. لهذا حرص الجدُّ على عدم إحزان النهر أو إغضابه، ووضع شرطًا صعبًا لبعث الموتى فى الحياة الأخرى ودخول الفردوس. لا يدخلُ الجنةَ قاتلٌ ولا كاذبٌ ولا سارقٌ ولا ظالمٌ. ولا يدخل الجنّةَ من لم يكن عينا للأعمى وساقًا للكسيح ويدًا للمشلول وأبًا لليتيم وعونًا للمظلوم. ولا يدخلُ الجنّةَ من تسبّب فى دموع إنسان أو حيوان. وكذلك.. لا يدخلُها من لوّثَ مياهَ النهر العظيم.
لهذا ابتكر الجدُّ المصرى العظيم لهذا النهر «إلهًا» يلجأون إليه ضارعين إن حزنَ النهرُ ذو المزاج المتقلّب، أو غضبَ. أطلقوا على ذاك الإله اسم «حعبى»، وتعنى باللغة المصرية «صانع السعادة».
فالنهر هو صانع الفرح. حرف العين مُخفَّفٌ، فتُنطق «حابى» ومنها كلمة Happy بالإنجليزية. هذا الإله موجود فى جيبك الآن على ورقة الخمسة جنيهات. منحوه شكلاً أسطوريًّا يجمع بين سمات الرجولة والأنوثة فى آن. فهو أعظمُ من أن يكون رجلا أو امرأة. ساقان وذراعان قويّتان كما لفارسٍ، ونهدان وبطن كما لامرأة ولود تحملُ الخيرَ فى نهديها والخِصبَ فى خصرِها.
حصد «حعبى» مزايا الذكورة والأنوثة ليقف على ربوة الكمال، المستحيل. فوق هامته زهرتان: اللوتس، شعار مصر العليا «الصعيد»، والبردى، شعار مصر السفلى «الشمال». وبين الزهرتين سُنبلة قمح، رمز الزمن. والمعنى أن النهر العظيم هو الشريانُ الأبدى الذى يربطُ شمالَ مصرَ بجنوبها على مر الزمان. يحمل حعبى فوق يديه صينيةً عامرة بالثمار والطير. أليس هو واهبَ الثمر ورازقَ الطير؟ وأحيانًا يُصوَّر حعبى على هيئة شابين ممشوقين يجدلان معًا زهرتى لوتس وبردى بميثاق غليظ.
آمنَ الجدُّ القديم أن حُزنَ النهر وجفافه بسبب شرور البشر. فكانوا يسترضونه بالغناء والتراتيل: «حعبى/ أبا الآلهة/ أيها الآتى بالحصاد لتُطعم مصرَ كلَّها/ يا واهبَ الحياة لكل إنسان ومُلقىَ الخير عند أطراف أصابعه/ مجيئُك إلينا يجلب البهجة والفرح/ أيها الفريدُ الذى لا أحدَ يعرفُ جوهرَك إلا أنت».
وآمن الجدُّ أن غضبَ النهر وفيضانَه تذكارٌ لدموع إيزيس، التى انهمرت حزنًا على حبيبها أوزوريس حين قتله شقيقه الشرير «سِت»، أو «ساتان»، ومنه جاءت Satan بالإنجليزية وتعنى «الشيطان إبليس». فكانوا يهدئون من غضبه بإلقاء عروس جميلة منحوتة من الجرانيت الأحمر، على شكل الربّة إيزيس، وكأن العروس تُزفُّ إلى عريسها. حتى إذا ما صفح النهرُ عن البشر، جاء فى منسوبه المضبوط، فخرج الأجدادُ يغنّون، ويرقصون احتفالا بعام قادمٍ من الرغد الوفير فى عيد سمّوْه «وفاء النيل».
ومن أين أتت كلمة «النيل»؟ لهذا مقال قادم.
نقلا عن المصرى اليوم