مدينة «القطائع»
مقالات مختارة | بقلم : الأنبا إرميا
٤٢:
٠٩
م +02:00 EET
السبت ٢ ديسمبر ٢٠١٧
ما أصعب الكلمات حين نحاول أن نرسم بأحرفها صورة لأحزاننا وآلامنا! وما أشد الصعوبة حين نحاول أن نهدئ بها أحزان البشر وآلامهم!! ولكن لا يسعنا سوى أن نرفع أيدينا وقلوبنا إلى الله كى يرسل تعزياته وصبره إلى كل نفس مجروحة ومتألمة بفقد عزيز لديها على يد إرهاب اغتال أنفس بريئة فى «مسجد الروضة» بالعريش. ونطلب إلى خالقنا أن يُنعم بسلامه على «مِصر» والعالم بأسره، فما أشد الاحتياج إلى نسمات القدير التى تملأ الأنفس أملاً وحياة!
تحدثنا فى المقالة السابقة عن مؤسس الدولة الطولونية فى «مِصر»: «أحمد بن طولون» (254- 270هـ) (868- 884م) ونشأته، وحياته العسكرية، وأنه بعد وفاة أبيه «طولون» دفع إليه الخليفة «المتوكل» جميع ما كان لأبيه. وعرضنا لثورتى «بُغا الأصغر» و«ابن الصوفى» العلَوىّ مع بداية حكم «ابن طولون» لمِصر.
يذكر المؤرخ «الكِندىّ» أن عام 256هـ: اتجه «أحمد بن طولون» على رأس جيوشه لمواجهة «عيسى بن الشيخ» والى «فِلسطين» و«الأردن» الذى كان قد تغلب على «دمشق» أيضًا وضمها إليه ممتنعًا عن دفع الأموال للخليفة، وزاد على ذلك أنه سلب «ابن المدبر» مسؤول جمع الضرائب فى «مِصر» وهو متجه بها صوب «العراق».. وبذلك قرر «أحمد بن طولون» الخروج لمحاربته، لكنه عاد إلى «الفسطاط» وقيل بسبب وصول رسالة إليه من «العراق»، ثم أرسل جيشًا لمحاربة «عيسى» بقيادة «ماجور» فهزمه وقتل ابنه فى «مِصر»، وحكم «ماجور» بلاد «الشام».
فى عام 256هـ (270م)، تُوُفِّى «المهتدى» وآلت الخلافة إلى «المعتمد» ابن المتوكل، فأقر «أحمد بن طولون» على حكم «مِصر». وفى ذلك العام بدأ «ابن طولون» فى بناء قصر- اندثرت آثاره حاليًّا- ذُكر أنه ضخم، له أربعون بابًا، منها: «باب الميدان الكبير»، وخُصص لدخول الجيش وخروجه، و«باب الخاصة»، و«باب الجبل»، و«باب الحرم»، و«باب الدرمون»، و«باب الصلاة» الذى يخرج منه «ابن طولون» للصلاة، كان القصر بمنزلة نواة لمدينة «القطائع» التى أسسها لتكون عاصمة «مِصر» (بعد «الفسطاط» و«العسكر»). جاءت تسمية المدينة بـ«القطائع» بسبب أن كل طائفة من رجاله اتخذت لها قطيعة يطلَق عليها اسم سكانها أو حرفتهم، وعلى سبيل المثال: قطيعة «السودان»، وقطيعة «الروم»، وقطيعة «الفراشين»، وهكذا. وبُنيت فى «القطائع» القصور والمستشفيات والمساجد والطواحين والحمامات فصارت مدينة كبيرة. وحاليًّا تَشغَل «القطائع» القديمة أحياء «السيدة زينب» و«القلعة» و«الدرب الأحمر» و«الحلمية».
كذلك أمر ببناء ميدان، حيث يذكر «الكِندىّ» أن «أحمد بن طولون» أصدر أمرًا (بحرث قُبور «اليهود» و«المَسيحيِّين» وبنى موضعهما). ويذكر «المقريزى» أن ذلك الميدان الذى يُعرف باسم «ميدان ابن طولون» فيقول: «وقد بناه وتأنق فيه تأنقًا زائدًا، وعمِل فيه المُناخ و«بركة الزئبق» والقبة الذهبية. وكان هذا الميدان كبيرًا يُضرب فيه بالصوالجة، فسُمى القصر كله «الميدان»، وعَمل للميدان أبوابًا لكل باب اسم. وقد تكلف إنشاؤه خمسين ألف دينار.
«أحمد بن طولون» و«سعيد بن كاتب الفرغانى»
يذكر مؤرخو التاريخ الكنسىّ أن «أحمد بن طولون» طلب من المهندس القبطىّ «سعيد بن كاتب الفرغانى» أن يشيّد له قناة تصل فيها المياه إلى مدينة «القطائع»، فقام المهندس القبطىّ بعمل قناة أدهشت كل من رآها لإتقانها الشديد. وبينما كان «أحمد بن طولون» يتجول ممتطيًا فرسه لمشاهدة تلك القناة، عثر فرسه بسبب كومة تراب أهمل فى نقلها فغضب على المهندس القبطىّ وأمر بسجنه. إلا أنه فكر بعد ذلك فى تشييد جامع يكون من أعظم ما بُنى فى «مِصر» وقيل إنه يريده أن: «لا تأتى عليه النيران، أو تهدمه مياه الفيضان، فإن احترقت (مِصر) بَقِى، وإن غرقت بَقِى». كما أراد أن يشيّده على ثلاثمئة عمود من الرخام فقيل له إنه يجب هدم الكنائس للحصول على مثل ذلك العدد من الأعمدة. ولما سمِع «سعيد بن كاتب الفرغانى» وهو فى سَجنه عما يرغب «أحمد بن طولون» فى تشييده، كتب إليه يخبره بأنه قادر على تشييد الجامع الذى يرغبه، ولن يحتاج إلا إلى عمودين. قرأ «أحمد بن طولون» عريضة المهندس «سعيد» وتذكر ما قام به فأطلق سراحه، وعهد له ببناء الجامع بحسب ما رسمه، وقد أتم تشييده بالفعل على أروع ما يكون عام 265هـ (878- 879م)، وقد استغرق بناؤه عامين وأنفق عليه قرابة مئة وعشرين ألف دينار.
«مسجد جبل يشكر»
فى ٢٥٩ هـ(٨٧٢-٨٧٣م)، أمر «ابن طولون» ببناء مسجد على «جبل يشكر» وأطلق عليه اسم «مسجد التنُّور»، وكانت مئذنة المسجد توقَد فيها النيران أثناء الليل لكى يهتدى بها الناس إلى طريقهم، وقد قيل إن موضع المسجد كان مخصصًا لإيقاد النيران عليه فى أيام فرعون «مِصر» عند رحيله فيُعد له ما يلزمه. و... وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
نقلا عن المصرى اليوم