بقلم: سهيل أحمد بهجت

إن التعامل مع العلمانية كمنتج "سلعة" غربية يهدف بالأساس إلى جعل العالم العربي و الإسلامي ينظر إلى هذا المبدأ الفكري كجسم غريب و بالتالي يندفع هذا القسم من العالم ـ و الذي يعيش حقبا طويلة من التخلف لأسباب اقتصادية و اجتماعية ـ نحو مزيد من الانغلاق و رفض الإصلاح و التغيير و الانفتاح و يقبل على البقاء أسيرا لتمجيد الماضي الأسطوري ـ بمعنى تمجيد التراث ككل و بدون استثناء ـ و ترسيخ عبادة الحاكم و الخلط بين الدّيني و السياسي و المطلق و النسبي، فثقافة التقليد تسعى إلى إقناع الناس بأن هذا النمط التكراري الطقوسي هو الكفيل بحفظ الاستقرار "المزعوم" للمجتمع الذي يفتقر بفعل الجهل و الخرافة و تعدد التأويلات المتناقضة في ظل الثقافة الغيبية، يفتقر إلى من يضع اليد على مشاكل المجتمع بهدف علاجها دون تبريرها بالقدر الإلهي و الإرادة الإلهية، فالعقل يبحث عن المسبب الواقعي للمشكلة، مثلا لو حدث فيضان في دولة علمانية عقلانية و حصلت خسائر في الأرواح و الممتلكات، تتجه أصابع الاتهام إلى المسؤول و الحاكم و الرئيس أو فرق الإنقاذ و الشركات، بينما في مجتمعات الثقافة الأسطورية الغيبية يتم نسبة كل شيء و بأسهل ما يمكن إلى الله و القدر، و هذه كارثة حقيقية لأنها تعني تكرار الكارثة و التبرير دون حدوث أي أمر منطقي.

فلنتابع ما يقول الدكتور المسيري:
"و قد طورت هذه الأطروحة في كتابي (الأيديولوجية الصهيونية): دراسة حالة في علم الاجتماع المعرفة (1981) فبيّنت أنّ ((الحضارة الغربية حضارة تكنولوجية تعلي من قيم المعرفة و الكفاءة و الإنجاز و التقدم مهما كان الثمن المادي و المعنوي المدفوع فيها))، و ترى أن البقاء للأصلح و الأقوى دائما، و تهمل كثيرا من القيم التقليدية ((البالية))، مثل البر بالضعفاء و الشهامة و التقوى و مساعدة الآخرين." ـ المصدر السابق ص 105

إن هذا الموقف السطحي البعد كل البعد عن العمق الفلسفي و المعرفي و تحليل و دراسة حضارة تكاد تكون هي المعبرة عن غالبية التحضر (كمضمون داخل المصطلح) لا يعكس إلا أمرين، و نحن نستبعد الاحتمال الأول و هو "الجهل" لأن شخصا بلغ درجة الدكتوراه لا يمكن أن يجهل حقائق موجودة على الأرض، و لكني أرجح الاحتمال الثاني ـ و الذي سبق لنا الإشارة إليه ـ و هو أن مسألة الحب و الكراهية و العواطف يمكن لها أن تؤثر على الجانب التنظيري و الرؤية الواقعية للأمور، فما سماه المسيري بالقيم "البالية" تهكما و استهزاءا بالغربيين لا يعكس إلا رؤية سطحية لمجتمعات تختلف معاييرها الخلقية و الاجتماعية و الدينية و تتفاوت مراتبها الثقافية و إمكانيات الاطلاع و بالتالي فإن ما يراه المسيري في مجتمعنا و يظنه "مساعدة للفقير و المحتاج" ليس سوى صورة قبيحة جدا للظلم الاجتماعي و الطبقية البشعة، فالغني الذي يمدّ إلى الفقير يد المساعدة هو في الواقع لا يحل مشكلته، بل يؤذي الفقير بأن يجعله دوما عرضة لتكبر الأغنياء الذين يتفضلون عليه بمبالغ تافهة، من ضمن قصور النظر هذا نجد أن المسيري يتجاهل النظرة الغربية إلى مشكلة الفقر و الحلول التي يقدمها، فالفقر لا يمكن علاجه عبر ترك الفقراء و المرضى و المسنين تحت رحمة الطبقة الغنية التي هيمنت على الدنيا ـ بفعل النفوذ الذي تملكه مع السلطة ـ و على الدين ـ عبر التبرعات و الزكاة التي يقدمونها للوعاظ ـ و من دون تدخل حكومي ينتزع الفقير و صاحب المعاناة من هذه الهيمنة و هذا السحق و التحطيم النفسي، كما أن مصطلحات الكرم و الشهامة و ما إلى ذلك لا يكون المجتمع الحضاري بحاجة لها إلا نادرا و هي مصطلحات ولدت من رحم مجتمع البداوة القاسي حيث لا دولة و لا قانون و لا قضاء يفصل بين المتخاصمين، و غالبا ما تكون هذه المصطلحات نسبية المعنى في مجتمع البداوة نفسه، فالكرم و الشهامة يكونان مع أبناء القبيلة و حلفاءها و لا بأس بغزو القبائل الأخرى و حتى الاعتداء على نساءهم و ممتلكاتهم.

إن ما نراه إيمانا غربيا بـ"بقاء الأصلح" و "الأقوى" لا يعكس النظرة الفلسفية الغربية إلى الواقع، فالغربيون يعتبرون أن "القدرة على التكيف" هي مفتاح البقاء و ليست القوة وحدها بالأمر الكافي، و بماذا يفسر المسيري استخدام النبي و الصحابة للقوة و القوة العسكرية تجاه التهديد الذي كان يحيط بهم؟ ألم يكن ذلك إقرارا منهم بقوانين المادة التي تحكم عالمنا هذا؟ و لماذا تأرجح الغربيون بين التغيير السلمي نحو الديمقراطية ـ كما في الدول الاسكندنافية ـ و التغيير العنيف كالذي جاء مع الثورة الأمريكية و الفرنسية، إن المسألة هنا هي التكيف، و النبي محمد كان يطبق هذا المبدأ في سيرته فنجده يدعو سلميا إلى مبدأه و يستخدم القوة إذا امتلكها تجاه من لا يعرف إلا مبدأ القوة، فالتكيف و النظر إلى الأسباب الواقعية و وضع الهدف للوصول إليه هو الذي يجعل البعض يمتلك مفتاح التاريخ بينما آخرون لا يملكونه.

إن التطور ليس على حساب الإنسانية كما يصور لنا المسيري، ففي خضم التطور العلمي، كما في التطور الديني، تتشعب الأفكار، فنجد مثلا أن ألمانيا كانت سباقة لبناء الدولة القومية ذات النمط الشمولي و أدت هزيمتها في نهاية الحرب العالمية الأولى إلى تنامي هذه النزعة و أدت المشاكل الاقتصادية و الاجتماعية بالألمان إلى احتضان النازية كهروب من الواقع المرير، بينما نجد أن فرنسا لم تتحول إلى هذا النمط الفكري بفعل التوجه الذي رسمه فولتير و مونتسكيو و روسو و غيرهم للثقافة الفرنسية التي اتجهت إلى تمجيد الإنسان كمخلوق بدلا من تمجيد الدولة كما في النظام الألماني، بينما يصر المسيري على متلازمة العلمانية و الدولة القومية، و هو ما لا يتلازم بالتأكيد، فالدين مثلا ينتج التطرف و الإرهاب و القتل و هو أيضا منتج للأعمال الخيرية و تطوير الإنسان خلقيا، مما يدل على أن الظاهرة تنتج ظاهرتين متناقضتين.

كذلك الأمر بالنسبة إلى ما يسميه الصهيونية ـ و هو يعتبر كل اليهود أو غالبيتهم من الصهاينة ـ لكن الصهيونية لا تمثل إلا جزءا صغيرا من تنامي الشعور اليهودي في القرنين 19 و 20 و الذي انتهى بقيام إسرائيل، لكن المسيري إذ ينتقد النازية و الصهيونية يتجاهل النزعات القومية العربية كليا، و كأنها لا تدخل في أي جانب سلبي، بل على العكس يعتبرها جزءا طبيعيا من النسيج الفكري و الاجتماعي العربي و الإسلامي، و هو ما يدلل قطعا و بالتأكيد على نزعة المسيري النازية التي تعتبر "كل الآخرين" شرا مستطيرا بينما يعتبر "الأنا + نحن" في قمّة الكمال و العصمة عن الأخطاء، و إذا ما افترض وجود خطأ ما فمردُّه إلى الآخرين و هم السبب الذي يقف وراء الخلل.